للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استماعه صلى الله عليه وسلم للشعر واستزادته منه]

رابع المواقف أيها المؤمنون: ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ردفه الشريد بن سويد الثقفي، كما روى مسلم في الصحيح من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه، وأبوه هو الشريد بن سويد الثقفي صحابي جليل، هذا الصحابي الجليل ردف النبي صلى الله عليه وسلم أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام ركب معه على الدابة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (هل تحفظ من شعر أمية بن أبي الصلت شيئاً؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله! قال: هيه) أي: يطلب، قال: (فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، فأنشدته بيتاً فقال: هيه؛ حتى أنشدته مائة بيت).

ولغوياً كلمة هيه: اسم فعل عند النحاة، فإذا بقي على البناء على الكسر ولم تنونه فأنت تطلب الاستزادة من نفس الحديث، وإن نونته قلت: هيهٍ فأنت تطلب الزيادة من أي حديث؛ لأن التنوين قرين التنكير، فأنت تطلب الزيادة من أي حديث، لكن إن قلت هيه من غير تنوين فإنك تطلب الزيادة من نفس الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها من غير تنوين ويريد الزيادة من نفس شعر أمية بن أبي الصلت.

يقول الشريد رضي الله عنه: فأسمعته مائة بيت، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة قال: (أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، وقال: (وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) فكلمة باطل هنا ليست ضد الحق، فإن الدين حق، وهو خلا الله، والنبي صلى الله عليه وسلم حق وهو غير الله، والجنة حق وهي غير الله، والنار حق وهي غير الله، لكن قصد لبيد بقوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، أي: مضمحل، فالعرب تطلق على الشيء المضمحل بأنه باطل.

قال شراح الحديث: وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال على كلمة لبيد بأنها أصدق كلمة؛ لأنها وافقت أصدق كلام، وأصدق الكلام هو كلام الله، والله يقول في القرآن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:٢٦].

فهذه المقولة الشعرية ل لبيد قبل الإسلام وافقت قولاً قرآنياً وهو قول ربنا جل ذكره: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:٢٦]، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا كل ما خلا الله باطل) هي أصدق كلمة قالها شاعر.

ولبيد: هو لبيد بن ربيعة العامري أحد شعراء المعلقات، ومطلع معلقته: عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها وقد أدرك الإسلام وأسلم، وهو الوحيد من شعراء المعلقات الذين أدركوا الإسلام، فأسلم رضي الله عنه وأرضاه، وقد عمر طويلاً، وكان يقول: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد وهنا مسألة وهي: أن الإنسان يحاول قدر الإمكان إذا مرت عليه أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بها، وأن يصنع ما استطاع أن يصنعه من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فقد قدر لي عام ١٤٠٩ أن كنت مع الشيخ محمد المختار الشنقيطي الفقيه الواعظ المدرس في الحرم النبوي الشيخ الجليل المعروف.

وفي تلك الفترة كنت طالباً في التعليم، وكنت في الدرس فمات أحد الطلاب فرثيته بأبيات، فلما كنت مع الشيخ وفقه الله ذكرت له الأبيات، وموضع الشاهد من القضية كلها: أنه كان كلما قلت له بيتاً كان الشيخ حفظه الله ووفقه يقول: هيه؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فزاد والله إجلالي ومحبتي وإقبالي للشيخ وإن كنا نحبه من قبل، فوقتها منّ الله عليه بالتوفيق أن تذكر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنشد شعراً قال هذه الكلمة.

والمقصود أيها المبارك: أن من أعظم ما تتقرب به إلى ربك: أن تحاول أن تتأسى بسيد الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، ولن تصل إلى مرادك من الله بطريق ولا بسبيل أقوم ولا أكمل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله يقول وقوله الحق: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:٢١].