وعظمة القدر كلما جحدها الناس بينها الله جل وعلا بجلاء من حيث لا يشعرون، فنبينا صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية جرى الصلح بينه وبين القرشيين، فأخذ المبعوثون يترددون بينه وبين قريش، وفي كل مرة تبعث قريش رجلاً منها، حتى بعثت سهيل بن عمرو، فقال صلى الله عليه وسلم:(لقد سهل أمركم، لقد أراد القوم صلحاً منذ أن بعثوا هذا الرجل).
فلما وضع الكتاب ليكتب واتفق الطرفان على الصلح وكان علي رضي الله عنه كاتب نبينا صلى الله عليه وسلم قال له صلى الله عليه وسلم:(اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) فاعترض سهيل وقال: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، اكتب كما كنا نكتب في الجاهلية: باسمك اللهم.
فرضي صلى الله عليه وسلم وكتب:(باسمك اللهم)، ثم قال لـ علي:(اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو)، فقال له سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فرفض علي رضي الله عنه أن يمحو ما قد كتب، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن موضع الكتابة؛ لأنه لا يقرأ لا يكتب، وعلم الله به الجن والإنس.
فبين له علي موضعها فمحاها صلى الله عليه وسلم بيده، ثم أمر علياً أن يكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.
فالذي جحد الرسالة هنا هو سهيل بن عمرو، فأنزل الله جل وعلا خاتمة سورة الفتح:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[الفتح:٢٩] ثم قال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ}[الفتح:٢٩] ولهذا فإن الحاذق من القراء الذي يريد أن يربط في تدبره القرآن بين الآيات يقرأ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[الفتح:٢٩] ثم يقف، ثم يأتي بالواو استئنافية ويقرأ:{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}[الفتح:٢٩] لأن في قول الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[الفتح:٢٩] رد على من أنكر رسالته وبعثته صلوات الله وسلامه عليه.
وفيما بعده إخبار بأنصاره في الرسالة والمؤمنين الذين آووه ونصروه وجاهدوا ومعه وهاجروا من المهاجرين والأنصار وثناء الله جل وعلا عليهم من قبل في التوراة والإنجيل.
والغاية من هذا كله أن تعلم أن الله جل وعلا لا يضيع عنده عمل عامل كائناً من كان، وأن العبرة بمقامك عند الله جل وعلا، وأنت ترى في طيات حياة نبيك صلى الله عليه وسلم ما يدلك على أن العبرة التامة لرفيع مقامك عند الله، ألا ترى أن الخضر وموسى عليهما السلام استطعما أهل قرية فقال الله:{فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا}[الكهف:٧٧] فامتنع أهل القرية عن إطعام عبدين صالحين من عباد الله، ولكن هذين العبدين لم يغير ذلك من منزلتهما عند ربهم تبارك وتعالى شيئاً.
وكيف تعرف قربك من ربك وعلو منزلتك عنده؟ اعرض نفسك على كتاب الله، يقول الله:{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الانفطار:١٣ - ١٤] وكل امرئ حسيب نفسه.