[من جوامع الدعاء دعاء امرأة فرعون]
الدعاء الثالث: في جوامع الدعاء ما ذكره الله تبارك وتعالى على لسان تلك المرأة الصالحة الصادقة آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، فهذه المرأة عاشت في قصر كفري كان صاحبه ومالكه -وزوجها في نفس الوقت- رجلاً يزعم أنه الرب الأعلى قال تعالى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] وأي: ذنب وجرم بعد ذلك؟ ومع ذلك فإن الله إذا أراد بعبد خيراً، وأراد له فضلاً ومزية، لم تمنع الله عن ذلك الحجب، ولم تمنع الله عن ذلك الجن، ولم تمنع الله عن ذلك السلاطين، فدخل الإيمان في سويداء قلب هذه المرأة العظيمة المؤمنة، رغم أنها تسكن في قصر لا يوحد فيه إلا فرعون، ولا يأمر فيه إلا فرعون، ولا ينهى فيه إلا فرعون، لكن لما تملكها الإيمان بطل كل من حولها.
وقد قال بعض أهل العلم: أن إيمان امرأة فرعون إنما كان بسبب تلك المرأة الماشطة! وماشطة امرأة فرعون ورد عنها حديث صححه بعض أهل العلم ونكاد نجزم بصحته: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به مر بالسموات السبع فكأنه شم ريحاً طيبة، فقال لجبريل: ما هذا؟ أو ما هذه الريح الطيبة؟ قال: هذه ريح ماشطة ابنة فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: وما ماشطة ابنة فرعون؟ قال: إن ماشطة ابنة فرعون كانت تمشط لابنة فرعون شعرها، فسقط المشط من يدها، فهمت لتتناوله وقالت: باسم الله.
فقالت بنت فرعون: وما الله؟ قالت: ربي.
قالت: ألك رب غير أبي؟ قالت: نعم.
ربي وربك ورب أبيك الله فقالت الفتاة: لأخبرن أبي.
قالت: أخبريه.
فأخبرت أباها.
فلما وضعها فرعون بين يديه قال لها: ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله! فأمر بنقرة من نحاس أن تحمى وأمر بزيت يصب فيها، وأمر بأن ترمى فيه فقالت له: إن لي إليك حاجة.
قال: وما هي؟ قالت: أن تجمع بين عظامي وعظام أبنائي فقال: ذاك لك لما لك علينا من الحق، فأخذ يرمي أبناءها على مرأى من عينيها واحداً بعد الآخر حتى بقي الرابع فقال: يا أماه! اصبري فإنك على الحق).
فهذه المرأة العظيمة كانت سبباً -على ما نص عليه بعض أهل العلم- في إيمان امرأة فرعون، وامرأة فرعون لما كان يخرج بها لتعذب كان الله جل وعلا يريها منزلها في الجنة، فكانت تقول كما أخبر العلي الكبير عنها: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:١١].
وتأمل أيها المؤمن هذا الدعاء: إن العرب جرت العادة من كلامهم أن تقدم الفعل ثم الفاعل ثم المفعول به، ثم الباقي من مكملات الجملة، ولكنك إذا تأملت قولة امرأة فرعون تجد أنها قدمت مكملات الجملة على المفعول به: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:١١] ولم تقل: رب ابن لي بيتاً عندك.
قال العلماء: اختارت الجار جل جلاله قبل أن تختار الدار، فجوار الله جل وعلا أعظم مما سواه، ومنزلته وهي الجنة أعظم ما طلبه المؤمنون من ربهم، فقولها هذا -رحمة الله تعالى عليها ورضي الله عنها- قول بليغ في الدعاء، وحري بكل مؤمن، ومؤمنة أن يكون من دعائه الذي يبتهل به إلى الله جل وعلا أن يدعو بهذا الدعاء: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:١١].
أما القول: {وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم:١١]، فهذا ليس بموجود، فدعاء الله به في هذا الوقت من الاعتداء في الدعاء.
ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل الله جل وعلا أموراً لا توافق الحال، أو يسأل الله جل وعلا أموراً أخبر الله أنها لم تكن.
فمثلاً: أخبر الله جل وعلا أنه حرم الجنة على الكفار، فلو أن رجلاً يحب أحداً من أهل الكفر -أبيه أو أخيه قريبه أو ما إلى ذلك- وقد مات على الكفر الصريح، فلا يجوز شرعاً أن يقول: اللهم اغفر لفلان، وهو يعلم أنه كافر كفراً أكبر لا تأويل فيه، ولا خلاف بين أهل العلم فيه؛ لأن هذا مما لا يقع أبداً.
أو كأن يقول رجل: اللهم اجعلني نبياً، فإذا سألته قال: أليس الله على كل شيء قدير؟ نقول: بلى.
إن الله على كل شيء قدير، ولكن الله أخبر أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:٤٠] فسؤال الله النبوة بعد إخبار الله بختمها يعد من الدعاء الذي نص الله على حرمته، قال الله جل وعلا: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف:٥٦].
وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:٥٥] أي: الذين يعتدون في دعائهم كما بينا.
والله تعالى أعلم.