ثم قرن جل وعلا حقه العظيم بأن ذكر بعده حق الوالدين، فقال جل ذكره:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء:٢٣]، ثم فصل وهذا يسمى في عرف البلاغيين استقصاء، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا}[الإسراء:٢٣]، فكلما عظمت حاجتهما إلى الغير ازداد حق البر لهما.
{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}[الإسراء:٢٣ - ٢٤]، فالطائر إذا أراد أن يقع ويتخلى قليلاً عن كبرياء الطيران خفض جناحيه، وكذلك حال الولد البار ذكراً كان أو أنثى أمام أمه وأبيه.
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:٢٤] قال العلماء: كل من أسدى إليك تربية تحقق عليك أن تبره من حيث الإجمال، فالوالدان الأصل أن لهما حق البر بمجرد أنهما والدان، ويزداد حقهما تعظيماً إذا قدر لهما -وهو الأصل- أن يتوليا تربيتك، فإن تولى تربيتك أحد غيرهما أو كان لأحد غيرهما شيء من التربية عليك توجهت وتقوت مسألة برك له قليلاً كان أو كثيراً، قال الله جل وعلا:{وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:٢٤].
لكن الإنسان ضعيف، فأحياناً يكون للوالد أو للوالدة مطالب تعلم أنت أنك لو حققتها لهما لكان ذلك سبباً في الضرر بهما، فيبقى في نفسك أمور وأمور تتداول، فتبقى على المنعطف الصحيح وتغلب عقلك على عاطفتك، كالأم مثلاً قد تصاب بالوسوسة فتظن أن بها مساً، وقد تحقق عندك أنه لا مس بها، لكنها تجبرك ما بين الحين والآخر على أن تذهب بها إلى من يقرأ عليها، وقد غلب على ظنك أنك لو ذهبت بها إلى زيد وعمرو من القراء لازدادت تعباً وعظمت الوساوس في قلبها، واشتد الأمر عليها، فتأنف وترفض أن تذهب بها وأنت بهذا تخالف أمرها، لكنك لا تريد إلا الخير لها.