[نشأة مريم عليها السلام في بيئتها الصالحة]
الله جل وعلا أنشأها أصلاً في ذرية قوم صالحين, والبيئة الصالحة تنشئ نبتاً صالحاً عقلاً ونقلاً.
فليس النبتُ ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في فلاة وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي السافلات حنة امرأة عمران نُشَّئت في بيت صالح من سلالة داود عليه السلام، وكانت لا تحمل, فجلست ذات يوم تحت شجرة, فجاء طائر فأطعم صغيره, فحنت للولد، ونذرت إن رزقها الله ولداً أن تجعله خادماً للرب في بيت المقدس.
فحملت بإذن الله, وبقيت على نذرها ونسيت أنه من الاحتمال أن يكون أنثى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:٣٦] أي: ما يصلح للذكر قد لا يصلح للأنثى، وما تقوم به الأنثى مختلف عن الأعباء التي حملها الله جل وعلا الرجال، لكنها مع ذلك أسمتها مريم، أي: عابدة الرب، ومن اللحظة التي ولدت فيها مريم أرادت أن يعتني بها ربها فقالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:٣٦] وهذا دعاء! فكان الرد الإلهي: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:٣٧]، وكان نبي ذلك العصر.
تكفلها زكريا بعد إجراء القرعة, فنشأت عليها الصلاة والسلام وقد اتخذت موطناً في المسجد يعرف بالمحراب, تعبد ربها وتقنت وتركع وتسجد، وليس لها همٌّ إلا طاعة الواحد الأحد.
فلما تهيأت للعطاء الرباني بما أظهرته لله جل وعلا من تقوى وصلاح, كانت مع تقواها وصلاحها محافظة على عفتها وحيائها, ولا تملك امرأة شيئاً أعز من إيمانها وعفتها وحيائها أبداً.
فخرجت ذات يوم لتطرد عنها الملالة شرقي بيت المقدس، قال الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:١٦].
فلما خرجت إلى شرقي بيت المقدس إذا بجبرائيل في صورة شاب تام الهيئة, جميل المنظر، بهي الطلعة, فتذكرت حياءها فذكرته بالله.
والإنسان يخاطب الناس بخلفيته الثقافية, فلأنها تخاف من الله ذكرته بالله، ولأنها تعرف معنى التقوى ذكرته بالتقوى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:١٨]، أي: إن كنت تقياً فاتركني في حالي.
فلما نجحت في الابتلاء ولم تتنازل عن حيائها وعفتها, قال لها الملك: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:١٩] فتعجبت! {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم:٢٠].
وقد يقول قائل: كان المفروض عندما بشرها بالولد أن تعرف أنها ستتزوج؛ لأنه لا ولد إلا من زوج؟ لكن الذي دعاها أن تفكر في أنه لن يكون من زوج أن الملائكة قالت لها من قبل: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [آل عمران:٤٥]، فنسبوه إليها ولم ينسبوه إلى أب, فعلمت أنها لن تتزوج.
{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:٢٠]، فأخبرها أن إرادة الله لا يمنعها شيء أبداً: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [مريم:٢١].
ولو أن الناس فقهوا هذه الآية فقط لما يئس أحد وهو يرفع دعاءه إلى الله جل وعلا, فإن الله إذا أراد أن يرحمك فلن يمسك رحمته أحد, وإذا أراد أن يمسك عنك رحمته -عياذاً بالله- فلن يرسل تلك الرحمة أحد: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:٢].
وغاية الأمر: أن جبرائيل عليه السلام نفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى رحمها، فحملت بعيسى بن مريم عليه السلام.