الأمر الثاني الذي نستقيه من نبأ المرسلين: تعظيم أولئك الرسل لآيات الله جل وعلا، فكما عظموا ربهم وذاته العلية فإنهم يعظمون أيضاً آيات الله جل وعلا، ومعلوم أن آيات الله وكلامه تبارك وتعالى منثور فيه دلائل وحدانيته، وبراهين ربوبيته، وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى جل وعلا، وأوامره العلية ونواهيه تبارك وتعالى، وألئك الرسل يتعاملون مع هذه الآيات في القرآن أو فيما أنزل عليهم كالزبور والتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وصحف موسى يتعاملون معها بكل غبطة وبكل خشوع وبكل فرح وبكل خوف وفرق من الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى ينعتهم ويصفهم ويثني عليهم:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم:٥٨]، ويقول الله تبارك وتعالى:{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}[الإسراء:١٠٩]، ويقول جل ذكره:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}[المائدة:٨٣ - ٨٤]، فهذا فعلهم وقولهم، وأما جزاؤهم:{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:٨٥].
إن الناس اليوم يقول بعضهم لبعض: إن الرجل القوي الشخصية يكون رجلاً عزيز الدمعة، أي: أن دمعته لا تقطر لأي سبب، وهذا القول وإن كان فيه شيء من الصحة إلا أنه خطأ على إطلاقه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ورسل الله من قبله هم أعظم الناس وأقوى الناس شخصية، وأكمل الخلق بلا مرية ولا شك، ومع ذلك تلك القلوب وتلك العيون لا تملك أمرها ولا تملك دمعها إذا تليت عليها آيات الله جل وعلا، يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه:(أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ عليه القرآن، فقلت: يا رسول الله أأقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: اقرأه عليّ فإني أحب أن أسمعه من غيري، فأخذ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقرأ آيات من سورة النساء على مسمع رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إلى قول الله جل وعلا:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النساء:٤١] قال ابن مسعود: فسمعته يقول: حسبك، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم).
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم صلوا ذات يوم الفجر وراء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه المعروف بقوة شكيمته، والمعروف بسلطته وهو أمير المؤمنين يوم ذاك، ومع ذلك لم يتبين الصحابة ما يردده وما يتلوه عمر من كثرة بكائه ونحيبه رضوان الله تعالى عليه، وذلك لما اخذ يقرأ آيات الله جل وعلا ويتلوها على مسمع ومرأى من المؤمنين، فالبكاء من خشية الله جل وعلا مزية كانت لأنبياء الله ورسله، وهي من المزايا التي ينبغي أن نسترشد بها.
وأما الناس اليوم! فمنهم شاعر غلب عليه الهيام والحب يفكر في حبيب طال سفره، أو غاب خبره، حتى قال قائلهم: رهبان مدين والذين عهدتهم يبكون من حذر العذاب قعودا لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعاً وسجودا فهذا الذي هداه إليه تفكيره، أو شخص يبكي على صفقة خاسرة، أو درهم أو دينار ضائع، وبعضهم يبكون على أدنى من هذا أو أعظم منه أو مشابه له، وأما المؤمنون الذين يعرفون ما أعده الله من الثواب وما أعده الله للعاصين من العقاب، والذين مر على أسماعه قول الصادق المصدوق لما ذكر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، قال صلى الله عليه وسلم يختم أولئك السبعة:(ورجل ذكر الله خاليا فاضت عيناه).
أيها المؤمن! تفيض العين لواحد من اثنين: إما أن يقرأ الإنسان وعيد الله جل وعلا وعظيم سلطانه فتذرف منه الدمعة؛ خوفاً وفرقاً مما سمعه، أو يقرأ العبد ما ينبئ عن وعيد مع وعد الله جل وعلا، يقرأ عن وعد الله جل وعلا، وما لله من صفات الجمال ونعوت الكمال، فتذرف الدمعة شوقاً إلى الله تبارك وتعالى ومحبة وانتظاراً لليوم الموعود الذي يبشر فيه المؤمنون، ويجزون برؤية ربهم جل وعلا، وكلا السببين داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:(ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ولذلك ينبغي للعبد إن لم يستطع البكاء أن يتباكى، فقد كان الربيع بن خثيم رضي الله تعالى عنه وهو أحد سلف هذه الأمة، كان يقوم الليل كله يردد قول الله جل وعلا وهو يبكي:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية:٢١]، وإنما نبكي إذا غاب عنا فضل الله ورحمته، ونبكي إذا حل علينا فضل الله ورحمته، نبكي في أول حسرة، ونبكي في الثاني فرحاً؛ ولذلك أحد ملوك بني العباس لما آلت دولة بني العباس إلى الضعف والانهيار في آخر أيامها أجبره القادة وأجبره الجنود على أن يتخلى عن الخلافة، ووصل بهم الأمر إلى إجراء القرعة في قضية يخلع أو لا يخلع.
فالشاهد: أن القرعة وقعت عليه بأن يخلع، فلما أخبره القاضي الموكل بإجراء القرعة قال له: يا أبا عبد الله أنع إليك الخلافة، أي: اترك الخلافة، فقيل: أن ذلك الخليفة قال كلمة والله تستحق أن توزن بمثقال الذهب، قال: اللهم إن كنت قد خلعتني من خلافتك فلا تخلعني اللهم من رحمتك.
وصدق الله العظيم القائل:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:٥٨]، فلا يحسبن دمعتك نظر ناظر، ولا تعليق أحد، ولا سخرية مستهزئ، لكن احتسبها عند الحي القيوم فاطر السماوات والأرض، واعلم أن الله جل وعلا ما عنده خير وأبقى.