[بشارة الأنبياء عليهم السلام بقرب بعثته صلى الله عليه وسلم]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من أصبعيه، وحن الجذع إليه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فإن المتصدر لتدريس شخصية ما، وذكر أحوالها ومناقبها، وما آلت إليه، وما قدمته للناس، يجعل النقد أول معاييره حتى يضع الناس على بينة من أمرهم في الصواب والخطأ، والهداية والضلالة، والسداد وعدم التوفيق، لكن الذي يريد أن يتحدث عن سيد الأنبياء وإمام الأتقياء سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فليس عليه إلا أن يطأطئ رأسه، ويخشع قلبه وتسكن جوارحه؛ لأنه يتحدث عن رحمة مهداة، ونعمة مسداة، عن سيد البشر، وخيرة خلق الله وصفوته، عن رسول الهدى، ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، وينبغي أن يعلم في أول الأمر أن السيرة واحدة لا تزيد ولا تنقص، فلا يستطيع أحد أن يزيد شيئاً لم يثبت فيها، ولا يستطيع أحد أن ينقص شيئاً مما ثبت فيها، لكن المسلمين في استسقائهم من سيرته صلى الله عليه وسلم تختلف مواردهم ومناهلهم ومصادرهم، فمن سيرته صلى الله عليه وسلم يستسقي الواعظون، وينهل القادة، ويغترف الساسة، ويتعلم العلماء، ويبحث الفقهاء، ويجد كل امرئ له حظاً من سيرته صلوات الله وسلامه عليه، والأمر كما قيل: وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم صلوات الله وسلامه عليه، ثم إنني قلبت الأمور في الوجه الذي أريد أن تخرج به هذه المحاضرة على النحو الأتم، والوجه الأكمل، على ما يسعى الإنسان أن ينال به رضوان الله، ثم نفع إخوانه المسلمين، فبدا لي -والإنسان ناقص مهما سعى إلى الكمال- أن عرض السيرة إجمالاً من الميلاد إلى الوفاة، والوقوف بعد ذلك عند الفوائد والعظات والعبر، أقرب طريق إلى فقه سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل، والنحو الأتم.
ونبينا صلى الله عليه وسلم نال الحفاوة كاملة، والاحتفاء التام من ربه جل وعلا، وحفاوة الله بأنبيائه سنة ماضية قال الله جل وعلا في حق نبيه إبراهيم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:٤٧]، وقال جل وعلا في حق موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:٤١]، وقد نال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل حفاوة وأتمها من قبل ربه جل وعلا، فلقد مهد الله جل وعلا لذلك من قبل، يقول صلوات الله وسلامه عليه: (إني عند الله لخاتم النيين، وإن آدم لمجندل في طينته).
ثم لما بعث الأنبياء وبعث المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أخذ الله جل وعلا العهد والميثاق أنه إذا بعث رسولنا صلى الله عليه وسلم وهم أحياء يرزقون أن يصدقوه ويؤمنوا به: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:٨١].
ثم كانت دعوة أبيه إبراهيم عندما وقف عند البيت: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:١٢٩]، ثم كانت بشارة عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:٦].
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام)، وقال صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وحسنه: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، خلق الله الخلق فجعلني في خير فرقة، ثم قسمهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً).
صلوات الله وسلامه عليه.
هذا كله قبل ولادته صلوات الله وسلامه عليه، فلما أراد الله جل وعلا له أن يولد في العام الذي ولد فيه صلوات الله وسلامه عليه كان في ذلك العام إرهاصات وأحداث عظام تدل على أن شيئاً ما سيقع، وأن حدثاً عظيماً سيكون، فكانت ولادته صلى الله عليه وسلم في نفس العام الذي غزى فيه أبرهة بيت الله العتيق، وعاد من ذلك الغزو خاسراً خائباً كما هو معروف لكل أحد.