ذكر الله تعالى أنه ابتلى داود عليه الصلاة والسلام بالنعم، وأيوب عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله جل وعلا بالضر، وكلاً من داود وأيوب نجح في الابتلاء، فأما أيوب فإن الله جل وعلا ابتلاه بمرض أثقله ظاهراً وباطناً، وعانا منه ما عانا حتى قال بعض الأئمة من المفسرين: لم يسلم منه إلا قلبه، عليه الصلاة والسلام، ومع شدة الكرب، وطول الدهر، وكثرة التقلب على فراش الأمل، وتخلي الصديق، وغياب الرفيق، وطول الليل والسنين المتتابعة في ألم لا يعلمه إلا الله، وتخلي الزوار وانقضاء من يأتي لقضاء حاجته، ونسيان الناس لأمره ثمانية عشر عاماً وهو في البلاء وليست ثمانية عشر يوماً لا تفتح له أبواب المستشفى ليتقرب أصحابه وأقرباؤه إليه بأنواع من الحلوى والصحف التي تسلي غربته، ولكنه وحيد طريح فراشه لم يبق له إلا زوجته وصديقان له، حتى إنه مسه ما مسه ومع ذلك عليه الصلاة والسلام من أدبه لم يجعله ينسب كل ذلك إلى الله وهو يعلم أن الأمر بيده قال:{رَبِّ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}[ص:٤١]، وهذا أدب أجل وأعظم مما أدب الله به هذا النبي عليه الصلاة والسلام؛ العبد المجتبى نبي الله أيوب، وإنما صبر عليه الصلاة والسلام في البلاء ثمانية عشر عاماً حتى قال بعض الأئمة من المفسرين: إن زوجته خرجت ذات يوم لتخدم عند بعض الناس علها تأتي له بطعام، فلما علم الناس أنها زوجة أيوب خافوا على ظنهم الجاهل أن تنقل إليهم العدوى فامتنعوا من استخدامها، فعملت عند قوم من الأشراف حتى رفضوها ثم بعد ذلك باعت إحدى ضفائر شعرها واشترت بما باعته طعاماً لأيوب فقدمته بين يديه فأكله، فلما كان اليوم الثاني لم تجد أحداً يستخدمها فذهبت وباعت ما تبقى من ضفائر شعرها واشترت به طعاماً وقدمته بين يدي أيوب، فأقسم عليه الصلاة والسلام ألا يأكل منه حتى تخبره من أين لها الدراهم التي اشترت بها الطعام، فخلعت تلك المرأة خمار رأسها فإذا برأسها محلوق، قال العلماء: فلما رأى الضر الذي مسه والضر الذي مس زوجه لجأ إلى كاشف الضر إلى الواحد الأحد الفرد الصمد قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:٨٣]، فاستجاب الله تبارك وتعالى إليه، وكلمه ربه جل وعلا، ولعل الظاهر أن الله كلمه بواسطة ملك، فقال له ربه -ولم يحله إلى أحد من خلقه-: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:٤٢]، لم يكلفه أن يذهب إلى طبيب، ولعظمة من لجأ إليه جعل العلاج يأتيه وهو في مقره ومكانه لم يقم حتى من فراشه، فركض بالأرض التي بجواره برجليه تنفيذاً لأمر الله جل وعلا، ومع ذلك لما ركض فإذا الماء ينبع فشرب منه فبرئ باطنه واغتسل فبرئ ظاهره، قال الحي تباركت أسماؤه وجل ثناؤه:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:٤٢] ليبرأ باطنك.
ثم إن الله جل وعلا يداه ملأى سحاء الليل والنهار لا ينفذ ما عنده، زاده على ما طلب، قال الله جل وعلا:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}[ص:٤٣] وهذه تكون لمن صنع صنيعة أيوب، ولجأ إلى الله جل وعلا في السر والعلن، وعلم أن الله وحده دون غيره هو الذي يكشف الضر، وأن الطبيب والمستشفى وما إلى ذلك أسباب لا تضر ولا تنفع، وبيد الله وحده مقاليد السماوات والأرض، وكم من مريض أنفق على علاجه الملايين لم يكتب له العلاج، وكم من مريض يئس منه الطبيب ودعا الله جل وعلا فكشف الله جل وعلا عنه ضره.
قال الله جل وعلا:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}[ص:٤٣]، وكان قد حصل بين أيوب وزوجه شيء إن صح التعبير من سوء التفاهم وإلا فالمرأة كانت صالحة محسنة إليه، ولذلك أقسم أيوب ونذر أن الله إذا شفاه أن يضربها مائة جلدة، فأخبره الله جل وعلا بقوله رحمة بتلك المرأة على ما قدمت قال الله جل وعلا:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا}[ص:٤٤] أي: أخلاطاً، {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ}[ص:٤٤] أي: بدلاً من أن تضربها مائة ضربة متتابعة خذ مائة عصا فاجعلها في حزمة واحدة واضربها بها مرة واحدة إنفاذاً لنذرك وتخفيفاً على تلك المرأة.
ثم قال الله جل وعلا آية يثني بها على ذلك العبد الصالح قال:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}[ص:٤٤] أي: بلوناه واختبرناه ثمانية عشر عاماً فصبر فتمت له من الله الحسنى، وشهد الله جل وعلا له بالصبر.
فلما تجاوز هذه المرحلة شهد الله له في المقام الأعلى، قال الله جل وعلا:{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:٤٤].
إن مقام العبودية أعظم مقام يمدح الله جل وعلا به أحداً من خلقه.