[ذكر نبي الله داود في السورة]
فقال جل ذكره: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص:١٧] أي: فاصبر على ما يقولون لك، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:٢٠].
ذكر الله جل وعلا لنبيه نبياً من أنبياء بني إسرائيل قبله وهو داود عليه الصلاة والسلام، والعجيب أن قصة هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام جاءت بها السنة حتى قبل مولده، فقد أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره، فأخرج من ظهره ذريته إلى يوم القيامة، فرآهم بين يديه فقال: يا رب من هؤلاء؟! قال الله جل وعلا له: هؤلاء ذريتك إلى يوم القيامة.
فجعل الله بين عيني كل فرد من تلك الذرية وبيصاً بين عينيه، فرأى وبيصاً -أي نوراً- من عيني داود أعجبه قال: يا رب! من هذا؟ فقال الله جل وعلا له: هذا فرد من أمتك يكون في آخر الزمان يقال له: داود، قال: يا رب! كم جعلت عمره؟ قال الله تبارك وتعالى: ستين عاماً، فقال آدم: يا رب! زده من عمري أربعين سنة، قال صلى الله عليه وسلم: فلما جاء ملك الموت إلى آدم قال: بقي من عمري أربعين سنة، فقال له ملك الموت: ألم تعطها ابنك داود؟ قال صلى الله عليه وسلم: فنسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم وخطئت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته).
فهذا خبر داود عليه الصلاة والسلام في السنة، وأول ظهوره عليه الصلاة والسلام أنه كان فرداً في الجيش الذي حارب به طالوت جالوت، ومعلوم أن الله جل وعلا سلط الملوك الجبابرة على بني إسرائيل فترة من الزمن، ثم إن الله تبارك وتعالى اصطفى طالوت من هؤلاء ملكاً عليهم قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:٢٤٧]، فقاتل طالوت ببني إسرائيل ملوك الجبابرة، كان يوم ذاك داود شاباً أزهر من ضمن جنود طالوت، فلما وقعت المعركة قتل داود جالوت بإذن الله جل وعلا.
وقد ذكر المفسرون: أن داود عليه السلام قتل جالوت بمقلاع كان في يده، والمقلاع: حبل ليس بالطويل يوضع في آخره حجر ثم يعقد عليه ثم يلفه الرامي مرة ومرتين وثلاث ثم يرميه بقوة إلى الخصم فيصيبه، فقيل: إن داود عليه الصلاة والسلام قتل جالوت بهذه الطريقة حتى قيل: إنه مر على حجر، فقيل إن الحجر كلمَّه وقال: يا داود! خذني معك فأخذه ووضعه في كمه، فلما كانت أرض المعركة فعل به ما فعل.
وقد أعاد هذا المقلاع شباب الانتفاضة اليوم ورجالها وأطفالها في أرض فلسطين وأعادوا سيرة المقلاع من جديد، فإن المتأمل في شاشات التلفاز أوفي أوراق الصحف أوفي غيرهما إذا نظر على اللقطات التي يظهر قليل منها عن أخبار المؤمنين في أرض فلسطين يجد أن كثيراً من أطفال الانتفاضة يحملون بأيديهم مقلاعاً يحاربون به بني إسرائيل، وهذا فيه من التذكير بما كانت عليه الأمة سلفاً من مجد سابق، والحق أن هؤلاء الفتية على قلة ما في أيديهم، وعلى قلة عددهم، وعلى عظمة من يقاومونه ظاهرياً وإلا فهم عبدة الطواغيت أحفاد القردة والخنازير إلا أنه رغم كل مظاهر التأييد التي تتلقاها إسرائيل إلا أن هؤلاء الفتية قدموا للعالم خلال أكثر من سنين عديدة صورة حقيقية للمؤمن إذا كان في عز وشموخ وإباء وأنه بحجر ومقلاع وما شابهه يحارب طواغيت الكفر وأئمتهم، أسال الله جل وعلا في لحظتنا هذه أن يؤيدهم بنصره، وأن يظهر على أيديهم دينه.
ثم ذكر الله أن داود لما آل الأمر إليه آتاه الله تبارك وتعالى الملك بعد طالوت وآتاه مع الملك النبوة، وقد يظن بعض الناس أن الملك أمر مذموم، والصواب الذي ينبغي أن يعقل: أن الملك نعمة وفضل من الله جل وعلا، ولو كان الملك مذموماً في ذاته لما آتاه الله النبيين من قبل، قال الله تبارك وتعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:٢٥١]، وأخبر تبارك وتعالى أن سليمان كان ملكاً، وقد آتى الله كثيراً من الصالحين والمخلَصين في الأرض الملك، {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٤٧]؛ لأنه لا بد للناس من رئيس يسوس أمورهم، فتقام به الحدود، وتسد به الثغور، ويظهر به دين الله، وتعلن به شعائر الحق، وهذا أمر لا انفكاك للمسلمين عنه، ولذلك كان الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه يقول: لأن يحرم الناس القطرة ستين عاماً خير لهم من ليلة بلا إمام؛ لأنه إذا غاب السيد والرئيس المطاع أصبح الأمر فوضى، وتسلط أهل الباطل على أهل الحق، وأصبح لا يستطيع أحد أن يقيم لله عبادة، ولا أن يقيم لله حدوداً.
الشاهد: أن من مواهب الله وفضله على نبي الله داود: أن آتاه الله الملك.