للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اختلاف الناس في المسيح بن مريم]

إنه ما اختلفت أمة من الأمم ولا قوم من الأقوام كما اختلف الناس في المسيح عيسى بن مريم, فاليهود حاربوه وحاولوا صلبه وظنوا أنهم صلبوه، وقومه النصارى منهم من زعم أنه هو الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ومنهم من زعم أنه ابن الله، ومنهم من قال بعقيدة الأقانين الثلاثة: الأب والابن وروح القدس، وهم يقولون: الثلاثة واحد والواحد ثلاثة.

والله جل علا كفَّر كل قائل بهذا القول، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:١٧]، وكفر الله جل وعلا الذين قالوا: إن المسيح هو ابن الله، قال الله جل وعلا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:٨٨ - ٩٤].

وكفر الله جل وعلا الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، قال الله جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء:١٧١]، فهذه عقيدة النصارى في المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام.

وهم يزعمون في بعض معتقداتهم أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة ارتكب خطأ عظيماً، ولما اهبط إلى الأرض كان على خطيئته وتبعه أبناؤه على تلك الخطيئة، وقالوا: إن من عدل الله ألا يترك خطيئة بدون عقاب، فأنزل الله جل وعلا ابنه الذي هو الله على الأرض، ليأتي من رحم امرأة فيكون إنساناً من جهة لكونه ابن مريم، وليكون إلهاً من جهة لكونه ابن الله، ثم إنه يدعو إلى شريعة الله الذي أتى منه، ثم يتكالب عليه الأشرار فيقتلوه ويصلبوه يسمِّروه على الخشب، فيكون بذلك هذا الابن قد خلص الناس من خطيئاتهم؛ لأنه تحمل عنهم تلك العقوبة، فلذلك يسمونه بعضهم: ذي نصير.

هذا قد يكون مجمل عقيدة النصارى في المسيح بن مريم، ولا ريب أنها عقيدة باطلة ما أنزل الله جل علا بها من سلطان، ولغلوهم في المسيح لجئوا إلى هذه الأمور، وتفرقوا تلك الفرق، وقالوا على المسيح ابن مريم ما قد سمعتموه وما أخبر الله جل وعلا عنه.

أما عقيدتنا -نحن المسلمين- في المسيح بن مريم فإننا نقول كما قال الله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:٧٥]، وانظر إلى الإشارة في قول الله جل وعلا: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:٧٥]، فإن من يأكل الطعام لا بد أن يخرج هذا الطعام، فكيف يكون إلهاً من يذهب إلى الحمام؟!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ولكن الله كنى عن هذه المسألة وهذا من الأدب القرآني بقوله تبارك وتعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:٧٥]، ليستدعي الانتباه، وليثبت العقول إلى هذا المقصود؛ ولأنه يستحيل أن يكون نبياً, ثم إن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام هو نفسه يقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:٣٠]، والنصارى يزعمون أنه الله على قول، ويزعمون أنه ابن الله، والله جل وعلا ليس المسيح بن مريم وهو منزه عن الولد، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:١ - ٤].

فينبغي أن يعلم أن المسيح بن مريم سبقت له من الله الحسنى فلا يضيره كون النصارى زعموا أنه إله أو زعموا أنه ابن الله، قال الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:٩٨ - ٩٩]، هنا رفع أهل الشرك أعناقهم وقالوا: إن على هذا القول المسيح في النار! فأنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١]، وهذا جواب.

والجواب الثاني: أن الله قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء:٩٨]، و (ما) تطلق على غير العاقل ولا تشمل العاقل؛ لأن العرب تستخدم (ما) الموصولة لغير العاقل وتستخدم (مَنْ) للعاقل.

مكث المسيح عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله جل وعلا وأنزل الله جل وعلا عليه كتاباً سماوياً: هو الإنجيل, والإنجيل: كلمة عبرية ومعناها: البشارة, وقد ضمنَّ الله الإنجيل العظيم من الهدى والنور، ومما جاءه الإنجيل البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى على لسان عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:٦]، وجاء فيه وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:٢٩].

وعيسى عليه الصلاة والسلام لما دعا الله جل وعلا تكالب عليه الأشرار في زمانه، فاتفق أشرار اليهود على قتله والخلاص منه، فطاردوه بعد أن دخل أورشليم -أي: القدس- فلما دخلها ذهبت فئة من اليهود وحاصرته في مكان ليأخذوه ويصلبوه، فرفعه الله جل وعلا إليه كما نص الله في القران، وألقى الشبهة -أي: هيأته على واحدٍ ممن كان موجوداً- فأخذ ذلك الواحد، قال جمهرة المؤرخين: أن اسمه: يهوذاً والله أعلم، فأخذوه وقتلوه وصلبوه، فظنت النصارى أن المسيح صلب وخلص الناس من خطاياهم، وظنت اليهود أنهم شفوا غليلهم وقتلوا المسيح بن مريم، وكلا الفرقتين واهم ومخطئ فيما ظنه وزعمه وادعاه، قال الله جل وعلا عن اليهود: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِم إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء:١٥٦ - ١٥٧]، ما الذي حدث؟ {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:١٥٨]، النساء.

فالله جل وعلا أخبر بأن المسيح عيسى بن مريم لم يقتل ولم يصلب ولكن القتل والصلب وقع على غيره، وأنه عليه الصلاة والسلام قد رفعه الله جل وعلا إليه، وهذه هي عقيدتنا نحن المؤمنين في قضية صلب المسيح عليه الصلاة السلام.