[تدبر في فاتحة سورة غافر]
ولذلك نرى أن تدبر القرآن هو أعظم شيء، على معنى قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان خلقه القرآن) صلوات الله وسلامه عليه.
وما عمل أحد بالقرآن ولا فقه القرآن مثل نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولما تمثل القرآن عليه الصلاة والسلام كان أشجع الناس قائداً وأفضلهم زوجاً وأكرمهم أباً ووالداً، كما كان صلى الله عليه وسلم أصدق الناس وفاءً وأحسنهم جيرة، وهو مع ذلك كله كان أحسن من يقف في المحراب بين يدي الله، وأفضل من يقف في فلق الأسحار يستغفر ربه ويدعوه ويرجوه، ويسأله جل وعلا، ويقف بين يدي ربه، يقيم الليل ويحييه بما أنزل الله عليه من القرآن.
وهذه وقفات وعظات بما أنزل الله تبارك وتعالى على نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال الله جل وعلا له في صدر سورة غافر -وهي أولى الحواميم، والحواميم سبع سور في القرآن متتابعات تبدأ بغافر وتنتهي بالأحقاف- قال الله له في تلك السورة الكريمة: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:١ - ٣].
فالقرآن أعظم ما أنزله الله، والنزول في القرآن ورد مطلقاً وورد مقيداً، فورد مطلقاً فلا يذكر الله جل وعلا المصدر الذي أنزل منه، وأحياناً يرد مقيداً بأن الله يذكر المصدر الذي أنزل منه، ولم يورد الله نزولاً في القرآن منسوباً إلى ذاته العلية إلا كلامه، حيث قال تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:١ - ٢] {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:١٩٢ - ١٩٣]، {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:٢].
وليس في القرآن شيء أخبر الله عنه أنه منزل من عنده ونسبه إلى ذاته العلية إلا القرآن، أما غير ذلك فقد أنزل الله الماء من السماء والملائكة من السماء، وقال جل ذكره: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:٥٩]، أما القرآن فقد نزل به جبريل من عند الرب تبارك وتعالى على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:١ - ٢]، ثم توالت الآيات تبين بعض صفات رب العزة والجلال سبحانه وتعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:٣].
قوله: (ذِي الطَّوْلِ) أي: ذي المنة و (غَافِرِ الذَّنْبِ) أي: يغفر الذنوب، وهاتان صفتا رحمة توسطتهما صفة شدة وانتقام للرب تبارك وتعالى، حيث قال سبحانه: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ).
بهذه الآيات يخوف الله جل وعلا عباده، ويحيي تبارك وتعالى قلوب وأنفس المؤمنين، وقد فقه صلى الله عليه وسلم كل ذلك، فلما أنزل الله عليه جل وعلا قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:١ - ٢] كان صلى الله عليه وسلم في حجرات أمهات المؤمنين الملاصقة لشرقي المسجد فيهن أنس يغدو ويروح بحوائجه، وفيهن أمهات المؤمنين، كل واحدة منهن لها حجرة، تخل تلك الحجرات من موضع سجود له عليه الصلاة والسلام، فشهدت بسجوده وقيامه بين يدي ربه تبارك وتعالى.
لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينمِ الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقمِ يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدمِ