[وصف سعد بن معاذ بالصلاح]
ممن ظفر بنفس الشهادة سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه سيد الأوس في زمانه، وهو الذي كان إسلامه سبباً في إسلام كثير من دور المدينة وبيوتها وأهلها؛ لأنه كان سيداً مطاعاً، وهو الذي قال لنبينا عليه الصلاة والسلام في يوم بدر خطبته الشهيرة يحث النبي عليه الصلاة والسلام على الجهاد ويخبره أن أصحابه ماضون معه، فسر النبي عليه وسلم بحديثه وخطبته، وقال: (امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين).
هذا الصحابي الجليل أصيب في أكحله يوم الخندق، وكان رجلاً جسيماً يركب الدابة وينشد عليها الأشعار التي تدل على شجاعته، لما رأته عائشة رضي الله عنها بهذه الصفة خشيت عليه من الموت، إلا أن هذا الجرح بدأ يتضاعف تدريجياً حتى تفرق الأحزاب عن المدينة، فلما تفرق الأحزاب كانت غزوة بني قريظة، وحكمه النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وكان يومئذ قد اشتد الجرح عليه فأتي به محمولاً على حمار، فلما أقبل به أصحابه إلى الموضع الذي فيه الرسول عليه الصلاة والسلام قال صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم) أي: إلى سعد.
ثم حكم فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، ثم بعد ذلك اشتد عليه المرض فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم قبة في المسجد حتى يعوده فيها لعظيم منته على دين الله جل وعلا ولجهاده وصلاحه، فانفجر الجرح ومات رضي الله عنه وأرضاه فنزل سبعون ألف ملك من السماء ليشيعوا جنازته أكثرهم لم ينزل من السماء قط، فخرج صلى الله عليه وسلم يجر رداءه ويسرع في مشيته وأصحابه من حوله تكاد تتقطع أشساع نعالهم وتسقط أرديتهم وهو يقول صلوات الله وسلامه عليه: (أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه)، فلما دخل عليه وهو يغسل وأم سعد تبكي عليه قال صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد) رضي الله عنه وأرضاه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سار في جنازته، فلما وضع في قبره تغير وجهه صلوات الله وسلامه عليه، ثم سبح ثلاثاً فسبح الصحابة الذين معه حتى ارتج البقيع، ثم كبر صلى الله عليه وسلم فكبر أصحابه حتى ارتج البقيع، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (هذا العبد الصالح الذي اهتز عرش الرحمن لموته، وفتحت له أبواب السماء، ونزل سبعون ألف ملك لتشييعه، لقد ضم عليه القبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح).
أخبر صلى الله عليه وسلم أن سعداً على تقواه وصلاحه وجهاده وأيامه المشهودة مع نبينا صلى الله عليه وسلم لم ينج من ضمة القبر، قال العلماء كما حكى الذهبي وغيره: ولا يعلمن مؤمن أن هناك راحة دون لقاء الله! فالمؤمن لا يمكن أن يضع عنه الأوزار وتذهب الآلام حتى يلقى ربه جل وعلا، أما من يوم أن نفخت فينا الروح حتى نلقى الله جل وعلا فلا بد من النصب، ولا بد من كبد وسقم وألم في الدنيا وفي القبر ويوم يقوم الأشهاد، حتى يخلف المرء جسر جهنم وراء ظهره ويدخل الجنة ويلقى الله، فهناك يستريح المؤمن الراحة كلها.
قال الذهبي رحمه الله: ومع ما أصاب سعداً من ضمة القبر إلا أننا لنشهد أن سعداً في الجنة، وأنه في أرفع مقامات الشهداء رضي الله عنه وأرضاه ولكن لله تعالى سنن لا تتبدل، وصبغة لا تتغير، ولذلك قال صلوات الله وسلامة عليه: (إن للقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجا منها هذا العبد الصالح)، وليست ضمة القبر داخلة في عذاب القبر، وإنما هي ألم يصيب المؤمن كما يصيبه في الدنيا عندما يفقد حبيباً أو يسافر عن أهله أو ما إلى ذلك مما يجده الإنسان من عناء النفس، فليست من عذاب القبر في شيء ولكنها ضمة مكتوبة على كل مقبور، كما أخبر نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
أيها المؤمنون! هؤلاء الثلاثة جاءت السنة بوصفهم أنهم عباد صالحون، وجاء القرآن بذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل، وما ذكرناه عيناً لا يعني الحصر فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم عباد صالحون، والأنبياء والمرسلون أولى أن يكونوا عباداً صالحين، ولكننا تقيدنا باللفظ الذي تمليه المحاضرة.
ولا يجهل أحد منكم أن الإنسان لا يكون عبداً صالحاً حتى يعمل الصالحات، وليس هذا الذي قدمنا لنجيب عليه، لكن الذي قدمنا من أجله أن نضع معايير من عرفها وآمن بها وتعامل مع الله بوفقها كان عبداً صالحاً إن شاء الله هذه المعايير مستقاة من الكتاب والسنة، تقرب من الله وتدل إلى الجنة، وإلا فإنه لا يجهل مؤمن أن الصلاة والصيام والزكاة والحج وأشباه ذلك مما شرعه الله يكون به المرء مؤمناً صالحاً ولكن الناس يعلمون هذا ولا يستطيعون فعله؛ لفقد المعايير واليقينيات والمدركات التي من خلالها يتعاملون مع ربهم تبارك وتعالى.