من الطرائق التي يصل بها المرء إلى أن يعظم ربه جل وعلا حق التعظيم: التأمل في سير الصالحين وأخبار السابقين ممن ذكر الله جل وعلا أنهم عرفوا قدره وعظموه حق التعظيم، قال الله تبارك وتعالى:{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[آل عمران:٣٥ - ٣٦].
وأهل الله المحبون له المعظمون له يتدرجون في حظوظهم ثم ينتقلون إلى أعلى الفلاح, فهذه امرأة كان همها أن يكون له ولد، فقد رأت طيراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد فطرة، فسألت ربها أن تحمل، فرزقها الله الولد، فلما اطمأنت على أنها رزقت حملاً دون أن تدري أيكون ذكراً أم أنثى، تخلت عن حظها المباح وتدرجت إلى أعالي الفلاح فنذرت ما في بطنها أن يكون لله قائلة:{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}[آل عمران:٣٥].
والمعنى: أن حظي من الولد ومن بهجة النفس والأنس والخدمة والنصرة لا أريده ولا أحتاجه، لكنني أبتغي من هذا الولد أن يكون خادماً لك في بيتك، فانتقلت من حظ مباح، إلى أن تجعل من ابنها أن يكون خادماً لله جل وعلا في مسجده.
فما يريده الوالدان من أبنائهم لا تريده، تريد من ابنها أن يكون خادماً للرب، وهذا أمر ليس لزاماً عليها، بل قد لا يرقى إليه أحد في زماننا, لكن المقصود التنبيه على أن لله جل وعلا عباداً فطرهم الله جل وعلا على تعظيمه ومحبته وعلى إيثار ربهم جل وعلا على كل أحد، فقال الله جل وعلا عنها, قالت:{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}[آل عمران:٣٥] أي: خالصاً.
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا}[آل عمران:٣٦] إذا بها تصاب بالدهشة فالمولود أنثى وهو أمر متوقع، لكن كان انصراف ذهنها في الأول إلى أن يكون المولود ذكراً، فلما كان المولود أنثى، قالت معتذرة إلى ربها:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى}[آل عمران:٣٦] فلما فاتها أن يكون ذكراً وليس هذا بيدها، لجأت للشيء الذي بيدها وهو التسمية فسمتها: مريم، بمعنى خادمه عند الرب لما فات حظها من كونه ذكراً، ما أرادت أن يفوت حظها من الاسم:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[آل عمران:٣٦].
هذا أنموذج ذكره الله جل وعلا من بيوت صالحات أصحاب أعمال زاكيات، كيف أن قلوبهم فطرت وجبلت على تعظيم ربها تبارك وتعالى.
وعلى هذا نقول: إن التأمل في سير الصالحين وأنباء السابقين ممن زكى الله أو زكى رسوله صلى الله علية وسلم يعين على أن يعظم المرء ربه تبارك وتعالى، ويعرف ما لله جل وعلا من كمال الجبروت وجلال النعوت، وأن الله جل وعلا وحده الحي الذي لا يموت.