[بيان معنى قوله تعالى: (فضحكت)]
السؤال
في قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود:٧١] يقال: إن (ضحكت) بمعنى: حاضت، فعلام استند قائل هذا التفسير؟
الجواب
القائل بهذا هو الشافعي رحمه الله، وهو حجة في اللغة؛ لأنه سكن في هذيل وأخذ عنهم علم اللغة عشر سنين، والشافعي رحمه الله تعالى إمام عظيم، ومن أجل علماء المسلمين، ولكن قوله هذا لا يقبل؛ لأنه لا يوجد تناسب تؤيده الآية.
فالله تعالى يقول: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:٧١] وإذا قلنا: (حاضت) فما العلاقة بين الملائكة وبين امرأة واقفة على رءوسهم تحيض؟ والمرأة كانت مستترة خارج الدار واقفة.
فمقصود الآية -والعلم عند الله-: أن هؤلاء الملائكة مروا على إبراهيم وهم في طريقهم إلى قوم لوط، وقد اتفق المفسرون على أنهم مروا على إبراهيم عليه السلام، وعندما مروا على إبراهيم ذبح لهم عجلاً دون أن يعرفهم؛ لأن إبراهيم لو عرف أنهم ملائكة لما ذبحه لهم، فإبراهيم عليه السلام يعلم أن الملائكة لا تأكل ولا تشرب، ولما كان خائفاً وجلاً منهم قال: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الحجر:٦٢]، فأخبروه أنهم ملائكة، وأنه لا داعي للخوف ولا داعي للوجل، فأدخل ذلك الانشراح في قلب الزوجة التي كانت خائفة على زوجها؛ لأنها واقفة معه تعينه على إطعامهم وتنظر في شأن هؤلاء الضيفان الذين ارتاب فيهم زوجها، فلما أخبرته الملائكة وقالوا: (لا تخف ولا توجل) تبسمت وضحكت؛ لأن الغم الذي كان قد أتاها انتهى، فضحكت.
فلما ضحكت كان فرحها بأنهم ملائكة مقدمة لأن يعطيها الله عطية، وهذا أصل من دقائق العلم، وهو أن الله لا يعطي إلا بعد أن يتبين أن المعطى استجدى.
فلما ضحكت واستبشرت قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:٧١].
ومثال هذه القصة في القرآن قصة السحرة، فالله جل وعلا يقول: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:٣٨ - ٤٠].
قال الله جل وعلا: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:٦٠] فالسحرة والناس ينظرون لم يصبهم كبر بقدر الله، بل احترموا موسى فقالوا: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:١١٥] وفي سورة أخرى: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:٦٥] فاستأذنوه بأدب، فقال لهم موسى: {بَلْ أَلْقُوا} [طه:٦٦] فألقوا حبالهم وعصيهم فرآها {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:٦٦] ثم لما ألقى موسى قال الله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:٧٠] فالذي آمن هم السحرة، وأما الجمهور الناظرون فلم يؤمن منهم أحد؛ لأن السحرة كانوا قد قدموا شيئاً بين يدي الله دون أن يشعروا، وهو أنهم تأدبوا مع كليم الله، فكافأهم الله منة منه، وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه، فهو يوفق العبد للطاعة ثم يثيبه عليها.
فهذه المرأة فرحت بأنهم ملائكة فضحكت، قال الله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:٧١].
هذا ما ندين الله به في الآية، ولكن ينبغي أن يعلم أن آراء العلماء تبقى محترمة على الرأس والعين، وقولنا أو قول أي أحد صواب يحتمل الخطأ، وغير قولنا إذا رددناه نراه خطأً يحتمل الصواب، وإن رأينا الحق رجعنا إليه.
وقد قال عمر في وصيته لـ أبي موسى: لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.