[التأمل في الموتى يفضح غرور الأيام]
ولا ريب في أن ذكر الموت إيضاح وبيان لغررور الأيام، وأن هذه الدنيا يقبض الله فيها عن عباد ويبسط لآخرين، فكم من عباد اليوم ملكهم الله نواصي الخلق، وكم من عباد اليوم أفاض الله عليهم من النعمة ما لا يحصى عدداً، وكم من عباد اليوم يجلسون على كراسي يأمرون منها وينهون، وكم من عباد اليوم آتاهم الله من السلطان والمال والعدد والعدة والكثرة في الولد، والوجاهة في الناس، وما إلى ذلك، فلا يسألهم أحد عما يفعلون، فهم في غدو ورواح وذهاب ومجيء، إن لم يرزقوا التقوى فقد هلكوا؛ لأنهم لا يخافون سلطان أحد من الناس، فمن هؤلاء من أهل الإسلام، ومنهم من أهل الكفر، ومنهم ممن هو من أهل المشرق، ومنهم من هو من أهل المغرب.
ومن العباد من قبض الله الدنيا عنه لحكمة أرادها، فهو لا يملك قوت يومه، ولا طعام أبنائه، ولا يجد ما يسد به رمقه، ولكن هذا وهذا مصيرهما إلى الموت.
ثم انظر بعد ذلك إلى إجابة هذا وهذا، فلا ريب في أن الفقير إذا استعصم كان أقدر على الإجابة من الغني، والإنسان لا يحتقر الدنيا، ولا يراها من منظار صحيح إلا إذا وقف يوماً وقفة منصف على شفير قبر، فتأمل وأنت واقف على شفير القبر تدفن قريباً أو حبيباً أو صديقاً لك، فالو عنقك في تلك الساعة وانظر نظرة فهم وإدراك للدنيا كلها، فوالله -إن كنت لبيباً وأوتيت علماً وإنصافاً- لتحتقرن الدنيا كلها، وهذا حق، فإن الدنيا لو بلغت عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراً شربة ماء.
تأمل في هذا المقبور أليس له خلان فارقهم ومضى؟! أليس له أموال تركها ومضى؟! أليس له مواعيد لا يستطيع إنجازها؟! أليست له أسرار لم يبح بها بعد؟! أليست له أسرار تركها في صدر فلان وفلان؟! له ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ولكن في تلك اللحظة التي فارقت روحه جسده انقطع كل شيء، فأتاه ما يشغله عن أهل الدنيا، وأتاه ما يشغله عما كان فيه وما كان يهتم له ويغتم له، فأصبح في هم أعظم، ومصاب أكبر.
وهذه النظرة إن أوتيها العبد رزق التقوى، فأنصف نفسه في هذه الحياة، ولم يحرص الحرص التام على أن يخلد فيها، أما أن تعصم الناس أموالهم، أو تعصم الناس حجابهم فليس ذاك بكائن، ونقلوا عن أحد خلفاء بني عثمان -والله أعلم بصحة الرواية- أنه من فرط حبه للدنيا أمر المصورين وأصحاب التماثيل أن يجعلوا صوراً وتماثيل بأحوال متعددة من هيئته، فإذا دخلت قصره وجدت صورته وتمثاله وهو نائم، وصورته وهو جالس، وصورته وهو مضطجع، وصورته وهو يمشي، صورته وهو قائم، وصورته وهو يشرب، وصورته وهو يأكل، كأنه يريد أن يغالب الموت، حتى قالوا: إن من فرط قدرة أولئك الذين قاموا بإتقان التماثيل والصور لم يبق من فارق بينه وبين تلك الصور إلا أن تخاطب تلك الصور.
ثم بين عشية وضحاها يسلب ملكه، ويخرج من المدينة التي كان فيها، فلم تعصمه حجابه ولا سلاطينه ولا من كان معه، قال حافظ: وأخرجه من يلدز رب يلدز وجرده من سيف عثمان واهبه فالذي أخرجه مما كان فيه هو رب العالمين جل جلاله.
تماثيل إيهام أنيمت وأقعدت تراءى بها أعطافه ومناكبه لكن كل ذلك لم ينفعه، حتى قال: ولم يغن عن عبد الحميد دهاؤه ولا عصمت عبد الحميد تجاربه حيل وصور وتماثيل وحجاب وحرس وسلاطين، ولا يدخل هذا إلا بإذن، ولا يخرج هذا إلا بإذن، لكن إذا نزل القدر بطل الحذر وعمي البصر.
اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد، أنت الله لا إله إلا أنت تحيي وتميت، تبدئ وتعيد، لا تموت، والأنس والجن يموتون.
اللهم إنا نسألك أن ترزقنا حياة طيبة، وخاتمة حسنة، وأن ترزقنا مرداً غير مخز ولا فاضح، اللهم إن لنا من الذنوب والمعاصي ما لا يعلمه غيرك، ولا يدري به سواك، اللهم كما رحمتنا وسترتها في الدنيا من علينا -يا أرحم الراحمين- بغفرانها يوم نلقاك.
اللهم إن لنا أملاً عظيماً في رحمتك يا رب العالمين، فلا تحرمنا ذلك الأمل يا حي يا قيوم.
اللهم إنا نسألك حياة الأبرار، ورفقة الأخيار، وصحبة محمد صلى الله عليه وسلم في يوم المعاد.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وأساتذتنا، ومن له حق علينا يا رب العالمين.
اللهم إنا خلق من خلقك، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، فارحمنا -اللهم ربنا- رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك.
اللهم اجعل ما قدمنا وما أخرنا من عمل نريد به وجهك، ونتقي به سخطك، ونؤمل به يوم نلقاك فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.