الأمر الثالث من المدركات حول الباقيات الصالحات: أن تعلم أن الله جل وعلا وحده من يعلم الغيب كله، فكم من إنسان يسعى في أمر يؤمل خيراً فيلقى ضده، وكم ممن يؤمل غير ذلك فيلقيه الله جل وعلا الخير، ومن علم أن الغيب كله لله اطمأنت نفسه وسكن قلبه ولم يركن إلى أحد من الدنيا يتكئ عليه: واشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه كان بينه وبين عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف نزاع حول الخلافة، فـ عبد الله في الحجاز وعبد الملك في الشام، وكان في الحجاز رجل يقال له كعب الأحبار يهودي أسلم أوتي علماً جماً من علم الكتاب الأول.
فكان يسكن مع عبد الله بالحجاز في مكة ويحدث عبد الله ببعض ما هو كائن، فكان مما عبد الله بن الزبير أخبره أنه سيموت ويقتل على يد رجل من ثقيف، قال: يا عبد الله يقتلك رجل من ثقيف! فلما ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي من أهل الطائف وعلا شأنه أمر عبد الله بن الزبير أخاه مصعباً أن يقاتل المختار فقتل مصعب المختار الثقفي، وبعث برأسه إلى عبد الله بن الزبير، فلما وضع رأس المختار الثقفي بين يدي عبد الله بن الزبير قال رضي الله عنه دون أن يدري كل ما أخبرني به كعب الأحبار وجدته رأي العين إلا قوله إنه سيقتلني شاب من ثقيف وما أراني إلا قتلته.
وما درى عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أن الله خبأ له في القدر الحجاج بن يوسف الثقفي، فمرت أيام وتوالت أعوام فبعث عبد الملك الحجاج بن يوسف وحاصر مكة، وكان من أمره أنه قتل عبد الله بن الزبير، فوقع ما أخبر به كعب من قبل.
موضع الشاهد من القصة أن الإنسان لا يعلم الغيب، وما دام لا يعلم الغيب فليس له مفر إلا إلى الله جل وعلا.
وهذا العلم في هذه الآية بينه الله جل وعلا في خاتمة سورة هود قال الله جل وعلا:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}[هود:١٢٣]، فإن من أعظم ما يعين على إتيان العمل الصالح أن تستسلم لأمر الله تبارك وتعالى، وأن ترضى بقضائه وقدره، وأن تعلم أن الغيب طوي عنك، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل:٦٥].