للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سبب نزول الآيات]

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) أي: في منعة واستكبار ومجادلة من الحق منعتهم أن يتبعوه وأن يسترشدوا به، وقد قيل: إن نفراً من قريش قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول دعوته، وقدموا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يخبرونه بما كان من أمر ابن أخيه، وما فرق الناس عليه - حسب زعمهم - فلما لام أبوطالب نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وأخذ يعاتبه ويسأله على ما كان منه قال: (يا عماه! إنما دعوتهم إلى كلمة تدين لهم بها العرب، ويسودون بها العجم.

فقال أبوطالب مستفهماً: وما هي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله)، هنا انتفض الملأ من قريش، وأخذوا ينفضون ثيابهم ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥]، وهذا يدل على سعة إدراكهم؛ ولأنهم علموا المعنى الحقيقي لكلمة (لا إله إلا الله)، ولأنهم علموا معناها وعلموا أنهم لا يستطيعون تطبيق ذلك المعنى على الوجه الأتم؛ ولأنه يعني البراءة من كل مظاهر الشرك التي كانوا يصنعونها ويفعلونها ويزعمون أنها حق فقاوموا تلك الكلمة بقولهم: (أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)، وتكاتفوا على الباطل واجتمعوا عليه، وحث بعضهم بعضاً عليه، قال الله جل وعلا: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} [ص:٦] أي: أشرافهم، {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:٦]، وإنها لكلمة تجعل في القلب رنة أسى، إن كان هؤلاء وهم أهل باطل وعباد وثن ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم، يعبدون أصناماً لا تقدم ولا تؤخر بل إنها لا تنطق أصلاً كما قال الخليل إبراهيم: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:٦٧]، ومع الباطل الذي هم فيه فقد كانوا متكاتفين، ويزعمون أنهم يؤيد بعضهم بعضاً، ويوصي كل خل منهم خليله بأن يصبر على هذا الأمر الذي كانوا عليه (واصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ).

ثم ذكروا ما يدعوهم إلى الصبر، وذكروا ما يرونه سبباً في بقائهم على ذلك الدين الباطل فقالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:٧]، وهذه الآية فيها دليل صريح على أن التقليد المحض غير المبني على برهان ولا دليل ولا بينة إنما التقليد لمجرد التقليد والإمعة في القول والعمل أمر مرفوض مذموم في ذاته، فإن هؤلاء الأقوام قالوا: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ)، أي: لا نحن أدركنا آباءنا ولا آباؤنا أدركوا أجدادهم على هذا الأمر، وإنما نشئوا جيلاً بعد جيل على ملة الكفر.

(ما سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ)، فزعموا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أمر مختلق من عنده، وما ذلك إلا لكبر في أنفسهم.

ثم نال صلى الله عليه وسلم منهم ما ناله قبله إخوانه النبيين، فإنه ما جاء أحد بحق كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء أحد بالحق من عند الله إلا وحورب من أئمة الكفر، وهذا الأمر من لدن آدم أو من يوم أن بعث الله على الصحيح نوحاً إلى أن تقوم الساعة، والصراع بين الحق والباطل قائم، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالدين القويم من ربه أنف أولئك الأقوام وحاربوه واتهموه بالتهم التي لا أساس لها فتارة يزعمون أنه ساحر، وتارة يزعمون أنه كاهن، وتارة يزعمون أنه كذاب إلى غير ذلك من الاختلاقات التي وصفوا بها أكمل البشر على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا تعلم أن قدح الناس فيك إن كان مبنياً على باطل أمر لا يضر ولا يقدم ولا يؤخر، لكن المهم أن توصف بشيء من الحق، أما أن يتجرأ عليك سفهاء أو سقطاء الناس أو الرعاع الذين لا يميزون بين حق والباطل فقد تعرض لهذا الأمر محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله إخوانه من النبيين عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولهذا صبر صلى الله عليه وسلم على قولهم وعلى أذاهم حتى بلغ دين الله - كما هو معلوم - على الوجه الأكمل.

ثم إن هؤلاء الأقوام حجَّهم الله جل وعلا بأمور عدة، قالوا فيما قالوه: {أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص:٨] يقولون هذا مستغربين: فلأي سبب أنزل عليه الذكر؟ ولأي مزية يخُتَص هذا الرجل بالنبوة والحكمة وإنزال القرآن؟ وهنا غاب عن رشدهم أمر لا ينبغي أن يغيب عن أحد، إن أي أمر يمنحه الله جل وعلا لعبد إنما هوفضل من الله ورحمة، وليس لي ولا لك أن نمنع رحمة الله جل وعلا، قال الله تبارك وتعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران:٧٤]، فالله تبارك وتعالى هو صاحب الفضل، وهو صاحب المنة، وله تبارك وتعالى الأمر من قبل ومن بعد، ولذلك قال الله تبارك وتعالى يرد على أولئك الأقوام لما قالوا: {أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص:٨] قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص:٩] أي: هل بيد هؤلاء الأقوام خزائن رحمة الله فيعطون من شاءوا ويحرمون من شاءوا حتى لا يكون لك حظ ولا نصيب من قسمتهم؟

و

الجواب

بالتأكيد لا، ليس لهم ولا لغيرهم خزائن رحمة الله تبارك وتعالى.

ثم قال الله جل وعلا قامعاً إياهم بالحجة: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} [ص:١٠]، أي: إن كانوا يملكون السماوات، وما فيها ويملكون الأرض وما فيها وما بينهما فليرتقوا فيها، وليمنعوا رحمة الله من أن تصيبك، وأنى لهم ذلك بل هم من أضعف خلق الله جل وعلا قال الله تبارك وتعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:٢٨]، فإن مردهم إلى ضعف، بل مردهم إلى جيفة قذرة، وهؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً على أن يمنعوا رحمة الله أن تصيبك أو أن تنالك، يا نبينا يا محمد! صلى الله عليه وسلم.

ثم لما كان هذا الأمر في أول الدعوة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقى ما يلقى من أذى قومه حتى إنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح عرض نفسه على شيوخ القبائل لما قالت له عائشة: (يا رسول الله! ما أشد ما لقيت من قومك؟! قال: يا عائشة! إن أشد ما لقيت من قومك يوم العقبة عندما عرضت نفسي على فلان وفلان وفلان فصدوني، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، وهذا مكان بين مكة والطائف، وكان ذلك بعد أن انطلق صلى الله عليه وسلم مهموماً على صدره، ثم قال: (فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب وإذا بسحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل فعرفته فسلم علي، ثم قال: يا محمد! هذا ملك الجبال بعثه الله إليك لتأمره بما شئت.

فسلم ملك الجبال على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الله بعثني إليك لتأمرني بما شئت، فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين) وقد كان صلى الله عليه وسلم في ذروة الهم مما رآه من قومه ومع ذلك قال وهو الرحيم الرءوف بالأمة عليه الصلاة والسلام: (لا، إني لأرجو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً).

وإنها من أعظم الدلائل على سعة رحمته صلى الله عليه وسلم، وعلى سعة أفقه، وعلى النظرة البعدية للداعية، فمن تصدر للدعوة إلى دين الله جل وعلا ينبغي ألا يكون أنفه هو حدود نظره، وإنما ينظر إلى مستقبل الأيام وإلى من يدعوه، فرب صغير مررت عليه بجوار المسجد لا يصلي ولو أغلظت له القول لما صلى أبداً، ولكن لو ألنت له القول ولو لم يصل في تلك اللحظة التي ذهبت فيها، لو قابلته بعد سنين لتذكر لينك ورفقتك معه، وقبل رأسك ربما، وأخبرك أن الله جل وعلا منّ عليه بالهداية، ولكن الناس طبعوا على العجلة قال الله جل وعلا: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:١١].

ومن شدة ما رآه صلى الله عليه وسلم من أذى قومه ومن تكالبهم عليه حتى إنه كان يمشي في أسواق مكة فيمر به الرجل ويناديه مناداة ملاطفة يطوي في طيها الخبث يقول: يا أيها الذي نزل عليه الذكر! فيلتفت صلى الله عليه وسلم مستبشراً فإذا استبشر ونظر إلى من سأله قال له ذلك الشيطان المارد من الإنس: إنك لمجنون.

قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:٦]، ومع ذلك كله وغيره صبر صلى الله عليه وسلم ليكون حجة على العالمين، وليكون صلى الله عليه وسلم إماماً للصابرين من العلماء والدعاة بعده صلوات الله وسلامه عليه بكرة وأصيلاً.

أقول في هذا الخضم: عز الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم، وسلاه بخبر إخوانه من النبيين قبله حتى يكون له عليه الصلاة والسلام أسوة فيمن مضى من النبيين، وحتى يعلم أن هذا الطريق الذي هو عليه قد مر على من قبله من النبيين وإن كان عليه الصلاة والسلام أكملهم وأعظمهم إيماناً إلى غير ذلك من صفات الكمال التي آتاها الله هذا النبي المعصوم.