[العلامات الدالة على معرفة قدر الله]
أعظمها: توحيده تبارك وتعالى فإن من وحد الله عرف قدره، فتوحيد الله جل وعلا الحسنة التي ليس بعدها حسنة كما أن الشرك السيئة التي ليست بعدها سيئة، ولا مصلحة بعد التوحيد ولا مفسدة بعد الشرك، فمن وحد الرب تبارك وتعالى ولم يجعل لله نداً في قلبه فقد عظم الله جل وعلا وقد عرف قدره.
فالمخاطبون بقول الله جل وعلا: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:٧٤] هم أولئك الذي جعلوا لله أنداداً ساووا تلك الأنداد بربهم تبارك وتعالى، جعلوا من له الأمر كله كمن لا يملك من الأمر شيئاً تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ثم تأتي بعد ذلك أمور في سلوك المرء وفي الحياة، تدل على تعظيمه لربه تبارك وتعالى ومنها على سبيل الإجمال والطريقة السردية لا الترتيب الأبجدي: الوجل عند ذكر الرب تبارك وتعالى، فإن وجل القلوب عند ذكر علام الغيوب من دلائل معرفة العبد بربه تبارك وتعالى وهذا كنه ما أثنى الله به على عباده الصالحين وأوليائه المتقين في كتابه.
ذلك أن القلب إذا فرح مع محبة لذلك الذكر ويحب كل المحبة مجلساً يعظم الله فيه، ويذكر الله فيه فإن ذكر الله حياة الضمائر، وأنس السرائر، وأقوى الذخائر، فالمؤمن إذا كان يجد في نفسه -وكل امرئ حسيب نفسه- حب المجالس التي يذكر الله فيها ويحب أن يعظم الله ويبجل ويحمد ويثنى عليه جل وعلا بما هو أهله مع وجله وشوقه إلى ربه تبارك وتعالى فإذا ذكر الله هذا من القرائن والبراهين على أن ذلك العبد يعظم الله رب العالمين.
كما أن من قرائن تعظيم الله جل وعلا ومعرفة قدره: أن يقدم المرء ما قدمه الله وأن يعظم المرء ما عظمه الله، وأن يتحرى الإنسان العمل فيما وصى الله جل وعلا به، هذه هي القلوب التي عرفت ربها حقاً، فإذا كان الإنسان قد جعل في طريقه في مسلك حياته في غدوه ورواحه ومخالطته للناس يعظم من عظم الله ويبجل من بجل الله فيعظم المصلين؛ لأنه يرى فيهم القرب من الله بصرف النظر عمن هم، ويأتي بالوصايا الإلهية فلا يقدم على والديه أحداً فإذا عظم والديه لا يعظمهما لأنهما أبواه وإنما يعظمهما؛ لأن الله جل وعلا وصى بهما في كلامه.
ثم يزدلف ويطبق عملياً ما وصى الله جل وعلا به فيجعل للوالدة ما لا يجعل للوالد، ولو كانت الوالدة أشد قسوة عليه من والده ولو كان والده حفياً به لكن أمه لا تصل في حنانها عليه إلى والده فيطرح ذلك جانباً ويقدم ما قدم الله وقدم رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن هذا الأمر يظنه البعض خطاباً عارضاً لكنه قرينة خفية على أنك تعظم ربك وأنت تحنوا عليهما، تذكر قول الله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:٢٤] فأنت لا تخفض جناحك؛ لأنهما كبيران، وإنما تخفض جناحك امتثالاً لأمر ربك تبارك وتعالى، وتزدلف إليهما، وقبل أن تخاطبهما بخطابك تتذكر أن ربك الذي خلقك وصاك بهما، ولو صنعت هذا الصنيع مع والديك ومع كل أحد وفق شرع الله وأخذت بوصايا الله فإنك لن تغلب من عصى الله فيك بأعظم من أن تطيع الله فيه، فإن اتباع وصايا الله لا يقود إلا للفلاح.
لكن أين يكون الخطأ؟ يكون عندما يدخل الشك في المرء في أن هذا الطريق ليس بصحيح فيبحث عن طرائق أخر يبتدعها، وقد لا تكون بدعة بمعنى البدعة المحضة ولكنها فرار عن منهج الله، ويطبق منهجه وهو يظن أنه سيصل إلى مقصودة، ولن تصل إلى مقصودك الشرعي إلا بالطريق التي اختصها الله جل وعلا لك، وهنا يتميز الواثق من منهج الله عمن هو غير واثق من منهج الله، فإذا خاطب الإنسان والديه مثلاً المرة بعد المرة وخفض لهما الجناح ولم يتغيرا لجأ إلى طريق آخر، حين لا ينفع معهما مثل هذا الخطاب، فيبحث عن طرائق أخر كأنه يقول ولو لم يصرح ودون أن يفعل ذلك عمداً كأنه يقول دون أن يشعر أنني سأخطط منهجاً أفضل من منهج الله.
فيتعامل الإنسان مع ولاة أمره وقد وصاه الله جل وعلا بطاعتهم، فإذا رأى منهم زلة هنا أو هناك غير طريقته وأراد أن يخرج عن وضع السمع والطاعة بحجة أنه يريد الإصلاح، ولا يمكن أن يكون هناك إصلاح حق على أي مستوى إلا باتباع شرع الله جل وعلا، وهذا وأمثاله منازل يختبر فيها الناس وليس الأمر مقصوراً على طاعة ولاة الأمر والوالدين لكن في شتى شئون حياتك مع خصمك مع عدوك مع رئيسك في العمل مع جارك في الحي ومع كل خلقه فقد جعل الله وصايا لكل أحد، فالزم ما وصى الله جل وعلا به تنل ما وعد الله جل وعلا، أما إذا خرجت عن طريق الله فلا تنتظر ما وعدك الله به وقد خالفت طريقته ومنهجه تبارك وتعالى.
قالوا: إن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه مر على حائط للأنصار-أي: حائط بستان- وفيه رفاق شباب يشربون الخمر، فتسلق السور ودخل عليهم فقالوا: يا أمير المؤمنين! جئنا بواحدة شرب الخمر وأنت جئت بثلاث: تجسست والله قد نهى عن ذلك، وتسورت والله قد نهى عن ذلك، ولم تستأذن والله قد نهى عن ذلك.
فعاد وهو يعلم خطأهم لكنه أكبر حجتهم؛ لأنهم قارعوه بالقرآن.
قال حافظ: وفتية أولعوا بالراح وانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها ظهرت حائطهم لما علمت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها فأت البيوت من الأبواب يا عمر فقد يزن من الحيطان آتيها ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها إننا نطأطئ رقابنا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلت رقابنا لأحد فوالله! ما ذلت إلا لأن الله أمرنا بهذا، وإن امتنعنا عن شيء فلأن الله جل وعلا أمرنا أن نمتنع عنه هذا هو العبد الصالح، العبد الذي يعرف عظمة أمر سيده تبارك وتعالى خالقنا ومولانا لا رب لنا غيره ولا إله سواه.