[الوصية الخامسة في الصداقة]
الوصية الخامسة: أن الصحوة قد صاحبها خلاف فقهي، ومعلوم أن الاختلاف في الفروع الفقهية جائز، فكون شخص من الناس يتبنى مسألة فقهية ويعتقدها ويدين الله بها، بينما لا تتبناها أنت، أو لا تراها، فليس هذا موجباً للبغضاء، ولا موجباً للعداوة، ولا موجباً لانقطاع الخلة.
قيل: إن الشافعي رحمة الله تعالى عليه جادل في مسألة علمية المحدث الشهير إسحاق بن راهويه، فكان الشافعي يرى أمراً، وإسحاق يرى أمراً آخر، فجلسا للمجادلة، فلما قاما اقتنع إسحاق برأي الشافعي، واقتنع الشافعي برأي إسحاق، فمضيا مختلفين كما بدآ؛ لكن التجرد لله جعل كلاً منهما يقبل الحق من أخيه! فلا يضرك أن تمشي مع إنسان لا يرى أن تارك الصلاة كافر، فمثلاً: قضية كفر تارك الصلاة الحق الشرعي الذي ندين الله به أنها مسألة خلافية، وليس هناك إجماع بين أهل العلم عليه، فالذين قالوا بأن تارك الصلاة كافر لهم أدلة، والذين قالوا إن تارك الصلاة لا يكفر لهم أدلة ظاهرة واضحة، ويكفيهم دليلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي سعيد الخدري: (وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله).
وليس هذا موطن الفصل في هذا الأمر، ولكن موطن الفصل: أن طائفة من أهل العلم كـ الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك قالوا: بأن تارك الصلاة لا يكفر، وذهب أحمد وغيره من أئمة الحديث إلى أن تارك الصلاة يكفر.
فكون أخيك المؤمن تبنى رأياً من أحد هذين الرأيين ليس موجباً للقطيعة! ومنها: هل في حلي المرأة زكاة أو لا؟ هذه مسألة خلافية معروفة، فكون الرجل يرى هذا الرأي، أو لا يراه لا يقدح في خلته، ولا يقدح في إمامته، ولا يقدح في منصبه الديني.
وكذلك كون الرجل يسمع أناشيد أو لا يسمع، فالأناشيد حسنها حسن، وباطلها باطل، فمن أهل العلم من خاف على الأمة أن تغرق في الأغاني فرأى أنها أقرب إلى الحرمة، ومن أهل العلم من قال إن الحق مع أصحاب الأصل، والأصل هو: الإباحة، ولم يقم دليل شرعي ثابت على أنها حرام، فلا يرى بأساً في سماعها، فمن السفه أن يكون هذا موطن خلاف، بل إنني أجزم أنه من نزغات الشيطان أن يكون هذا الأمر موجباً للخلاف.
قلت لأحد الناس: ألا تسافر مع فلان؟ قال: أعوذ بالله! ولا أعرف منهما إلا الفضل، فتعجبت لم؟ قال: فلان يسمع أناشيد.
قلت: وأنت؟ قال: أنا لا أسمعها.
قلت: اعلم مبدئياً أن لكل منكما دليلاً، ولكن لا يمنعه ذاك من أن يصحبك، ولا يمنعك من أن تصحبه في سفره، فهذا من نزغات الشيطان، إذا كنا نتعادى في أمور كهذه ونختلف، ونتفرق بأنفسنا، فما يكون حال فيمن لا يقول لا إله إلا الله، إذا سلم منه أهل الكفر، وأهل الملل الباطلة، والعقائد الفاسدة، من جزم الله بكفرهم إن بقوا على ما هم عليه، وتفرغنا لزيد وعمرو مما يأتينا بمسألة فقهية.
ولو فرضنا أن صاحبك تخلى عن مبدئه وقال بقولك، فهل هذا يرفع الخلاف في الأمة؟
الجواب
لا يرفع الخلاف.
الآن لو أتى أعلم أهل الأرض مثل سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز فرجع عن قول من أقواله، فهل رجوع الشيخ اليوم عن قول من أقواله سيرفع الخلاف في الأمة كلها؟
الجواب
لا الشيخ عبد العزيز ولا غيره يقول بهذا، فإن الخلاف مضى وانتهى، ودون في كتب، فليس قول أحد اليوم بمزيل لذلك الخلاف.
فالأمر أهون وأقل شأناً من أن نتعادى وأن نتباغض فيه، وأن نجعله موهناً للأخوة، وأن نجعله سبباً للتفكك، وسبباً للقدح، إن هذه الألسنة يجب أن تقول الحق أو تسكت، قال صلى الله عليه وسلم: (قل خيراً أو اصمت).
ولذلك فإن القدح في العلماء من أعظم ما يجلب الحسرات، وتذرف من أجله الدموع، وقد ينعت أحد العلماء بقول قائل: فلان عالم شهير، لكنه لا يدرك فقه الواقع، أو لا يعلم عن فلان وفلان شيئاً.
وهذا من الجهل بعينه، وهل يلزم من العلم الشرعي أن يكون الإنسان عالماً بكل الناس؟ هذا مستحيل! والله لا يوجد أحد يعلم جميع الناس.
وحتى يكون الأمر أوضح فقد قال الله جل وعلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ} [التوبة:١٠١].
قال الإمام الذهبي رحمة الله تعالى عليه: إذا كان نبي الأمة قد خفي عليه حال أقوام في مدينته، فما يضير العالم إن خفي عليه أحوال أقوام في دولته، أو في بلده، أو في العالم الإسلامي كله، ليس هذا بقادح شرعي، متى كانت مثل هذه الأمور سبباً في أن يقدح في أولئك العلماء، أو أن يقلل من مناصبهم الدينية والشرعية، وما أفاء الله عليهم من علم شرعي.
واعلم أنه لا يوجد أحد في الذين غبروا ومضوا، ولا في الحاليين، ولن يكون بعدهم رجل يعرف أحوال الناس كلهم فرداً فرداً، فيعرف أن هذا على حق، وهذا على باطل، هذا ما كان لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وهو في المقام الرفيع والعصمة المعروفة، ووحي الله تعالى إليه، فلن يكون إذاً لغيره كائناً من كان! كذلك مما نوصي به في قضية الصداقة أن يكون صديقك أحرى الناس بفضلك، وأولى الناس ببشاشتك.
بعض الناس لين القول سليم الصدر لمن حوله من بعيد، لكن إذا جلس في مجلس لا يجد أحداً يخطئ عليه، ويقلل من شأنه، ويمزح معه أكثر من اللازم -بالتعبير العامي- إلا صديقه، فيقول: لم تأخرت يا فلان؟ ويقول: هذا الذي ما جاءني إلا الساعة الخامسة! فنقول: هذا الوحيد الذي أكرمك ومر عليك، فإن كان في إنكارك حق فامدح به الذي مر عليك، يعني: جميع الحاضرين ليس فيهم أحد مر عليك، فتأتي إلى رجل كان سبباً في وصولك، واستعمل سيارته في خدمتك، فتلومه وتعتب عليه، وتفضحه على رءوس الأشهاد، إذا كان الإنسان القريب منك ينال عثرة، فمن ينال -إذاً- خيرك وفضلك، ومن ينال ما فيك من خصال طيبة، وصفات حسنة! فليكن إحسانك وإكرامك لطريقك، واعلم يا أخي أنك إذا أكرمت أخاك وصديقك على ملأ من الناس أكرمك الناس وأكرموا صديقك، وإن أهنت صديقك فلن يبقى لصديقك توقير ومكانة بين الناس؛ لأنهم يقولون بلسان الحال والمقال: لو كان فيه خير لعرفه من يصاحبه، لعرفه من يؤاخيه، لعرفه من يغدو ويروح معه.
وأن تذم خليلك وصديقك بين الناس، هذا والله هو الجهل بعينه، بل إذا قدم إليكما فنجان قهوة، فمن باب الإظهار للناس أنك تعزه وتكرمه فلا تأخذه قبله، ولو من باب الإيماء والإشارة.
وإذا سُئلت مع من تذهب فليكن من قدم معك أولى الناس بأن تختاره، أما أن يجعل الإنسان صديقه المقرب الذي يأوي إليه بعد الله جل وعلا بعيداً عنه في الناس فما فائدة أن يمدحه في الخلاء ويذمه على الملأ؟ هذا لا يقبله أحد.