أول تلك الوقفات فإن الله وعلا قد افتتحها بقوله:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء:١]، فهذا حدثٌ وقع في ليلة من الليالي عبّر الله جل وعلا عنها بالتنكير، فقال سبحانه وتعالى:(ليلاً)، قال العلماء: إن التنكير هنا ورد لغرضين بلاغيين قال بكل واحد منهما فريق من أهل العلم: أما الفريق الأول فقد قالوا: إن الله جل وعلا نكّر كلمة (ليل) هنا لتدل على التقليل، فتكون الغاية من ذلك أن هذا الأمر الذي يقع عادة في شهور وليالٍ وأيام وقع في برهة من الليل، ولا يقدر على هذا إلا العلي الكبير جل جلاله.
وقال آخرون: إن كلمة (ليل) نكرت هنا للتعظيم والتفخيم، والمراد: ليل وأي ليل؟ ليلٌ دنا فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى فقربه الله وناجاه، وأدناه وكلمه، وفرض عليه الصلوات الخمس، ودخل صلى الله عليه وسلم الجنة واطلع على النار صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله جل وعلا:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى}[الإسراء:١]، والمجيء بالمفعول المطلق (سبحان) هنا يدل على أن ثمة أمراً عظيماً وقع لا يقدر عليه إلا رب العزة، فقد أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام أول بيت وضع في الأرض إلى المسجد الأقصى البيت الثاني الذي وضع، وبينهما أربعون عاماً.
وقول الله جل وعلا:((الأقصى)) إشارة إلى هناك مسجداً سيكون بينهما، وقد وقع بعد الهجرة بناؤه صلى الله عليه وسلم لمسجده الشريف في مدينته صلوات الله وسلامه عليه.
وقد أسرى الله به ليلاً بعد أن غُسل قلبه وصدره، غسل قلبه صلى الله عليه وسلم بماء زمزم، وهذا الغسل غسل حقيقي، حيث أخرج القلب من الصدر ووضع في طست فيه ماء زمزم، ثم غُسل وملئ إيماناً وحكمةً، ثم أعيد إلى مكانه، ثم أسري به على دابة يقال لها:(البراق) من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بيت المقدس، فربط صلى الله عليه وسلم البراق في الحلقة التي في باب المسجد التي يربط بها الأنبياء دوابهم صلوات الله وسلامه عليهم.
وبيت المقدس أرض الأنبياء، ومع ذلك صلى إماماً؛ ليقول الله جل وعلا للخلق أجمعين ولنبينا في المقام الأول: إن هذا النبي -وإن كان آخر الأنبياء مبعثاً ودهراً وظهوراً- وهو أول الأنبياء وأعظمهم قدراً وأجلهم ذكراً، فصلى بهم صلى الله عليه وسلم في موطنهم في مكانهم في دارهم إماماً بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
والفعل (سرى) لا يقال إلا لمن مشى وارتحل ومضى في الليل، والله تعالى قال:(ليلاً) للغرضين البلاغيين اللذين قدمناهما، وأحدهما على أن المراد به التقليل، والمقصود أن هذا الأمر لا يتم عادة إلا في الليالي والشهور والأيام، فتم في برهة من الليل، والآخر على أن المراد به التفخيم.