للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأحاديث التي تخبر عما سيكون من أمر الدجال]

جاءت أحاديث تخبر عما سيكون من أمر الدجال، هذه الأحاديث تدل في مجملها على التالي: مكان خروجه، والجمع بين الروايات يدل على أنه يخرج أولاً في خراسان، ثم يخرج من طريق بين الشام والعراق، وأما لبثه في الأرض، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنه يمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامنا هذه، لا يبقي أرض إلا يطؤها إلا مكة والمدينة) ومن هنا قال العلماء: إن من أسباب العصمة من فتنة الدجال سكنى مكة والمدينة.

(وأنه يمكث في الأرض سرعته في التنقل كالغيث استدبرته الريح) كما قال صلى الله عليه وسلم.

قلنا من قبل أنه وجد أفراد ادعوا الألوهية كفرعون والنمرود، لكن فرعون والنمرود لم يأتوا بدلائل تدل على أنهم يملكون شيئاً من الربوبية، أما هذا فهو قطعاً لا يملك شيئاً من الربوبية، لكنه يملك فتناً تلبس على الناس، ولهذا وصفت فتنته بأنها أعظم فتنة، قال صلى الله عليه وسلم: (أو الدجال فشر غائب ينتظر) يمر على القرية الخربة فيدعو أهلها إلى الإيمان به فيستجيبون، فلا يكلف نفسه أن يبحث عن كنوزها، وإنما يخرج منها فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل -كذكور النحل- تخرج لوحدها، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، فيعود ذلك بالنفع على أهل تلك القرية وعلى أهل تلك البلدة، ويمر على القرية فيدعو أهلها فلا يجيبون فيتركهم مرملين مجدبين لم يبق عندهم شيء، وفي هذا فتنة.

ومعه نهران: نهر ماء أبيض رأي العين، ونهر نار تتأجج رأي العين، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أدركن أحدكم ذلك -أي: ذلك اليوم، وذلك النهرين- فليأت الماء الذي يرى أنه نار تتأجج فإنه ماء) ثم انظر إلى شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، قال يوصي الذي يدرك هذا اليوم، قال: (وليغمض عينيه)؛ لأنه إذا فتح عينيه سيراها ناراً عياناً، ولا يمكن عندها أن يقدم، وسيحجم على أن يأتيها، فحتى يأتي الحق أمره صلى الله عليه وسلم ونصحه بأن يغمض عينيه، كما تسقي ابنك الدواء أحياناً فإنك تعطيه إياه بطريقة يغلب على ظنك أنك لو أعطيته إياه بصورة واضحة لما قبله، فتعطيه إياه بصورة يقبلها فيها.

والمقصود من الحالين من ضرب المثال ومن الحال الأول قضية الوصول إلى النفع، قال صلى الله عليه وسلم: (فليغمض عينيه فإنه ماء أبيض) أي ما يراه الناس نار تأجج.

على هذا من أعظم فتنته استجابة الجمادات له كما بينا، وهو مكتوب بين عينيه كفر، وإحدى عينيه كأنها عنبة طافية، أي: أنه أعور العين اليمنى، وهنا أنخ أيها المبارك! مطاياك لتعلم أن الله جل وعلا يرى في كل مخلوق نقصاً، فالكمال المطلق له جل وعلا وحده، فهذا الرجل يزعم أنه إله، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، والكنوز أن تخرج فتخرج، ويطوف على الأرض كلها في أربعين يوماً، ومع ذلك يعجز أن يمسح ما هو مكتوب على جبهته، بل يعجز أن يمسح أثر العور عن عينيه، حتى يظهر النقص فيه، وقد قلنا مراراً: إن الإنسان إذا أراد أن يعرف عظمة الله فلينظر النقص الذي في المخلوقين، فالنقص الذي في المخلوقين أياً كانوا من أهل الحق أم من أهل الباطل، يريك عظمة الخلاق جل جلاله، فقد خُسِفَ القمر ليرى الناس عظمة ربهم تبارك وتعالى، ويشج رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكسر رباعيته، ويدخل المغفر في وجنتيه لعلم الناس كمال وجه الله تبارك وتعالى، وعلى هذا قس ما تراه من حوادث يدلك على عظمة الخالق تبارك وتعالى.

فهذا المخلوق على ما فيه من جبروت وعلى ما أعطي من خوارق إلا أنه يعجز أن يمسح أثر الكفر من على جبهته، وأثر الأذى والعور من عينه، قال صلى الله عليه وسلم: (مكتوب بين عينيه: كفر، يقرؤها كل مؤمن ويغيب عن قراءتها كل كافر ومنافق).

يأتي المدينة فينزل في سباخها، فإذا نزل في سباخها يخرج له رجل شاب من أهل المدينة جمع بين العلم والإيمان، فيسأل الذين يحيطون بالدجال ممن آمنوا به من السذج عن هذا الرجل الدجال فيقولون له: إنه ربنا، فيكفر به، فيريدون أن يقتلوه، ثم يرون عليه ما يرغبهم أن يقدموا به على ربهم الذي يزعمون، ويريدون أن يستأذنوه فيقبل الدجال أن يدخل عليه؛ لأن الدجال يهمه أن يؤمن مثل هذا به، فيخرج هذا الرجل وقد جمع علماً وإيماناً، ولا يمكن أن تواجه الفتن إلا بهذين: بالعلم والإيمان.

فعندما يقدم إليه يقول له الدجال إنه الإله، فيقول له: بل أنت الدجال الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فيقتله الدجال ويجعله قطعتين، بينهما رمية الغرض، هكذا قال صلى الله عليه وسلم، ورمية الغرض هي المسافة التي يجعلها الإنسان بينه وبين الهدف الذي يتخذه لسهمه، فمن أراد أن يتعلم الرماية يتخذ غرضاً يصيبه ثم يبتعد عنه حتى يرميه، فهذا الدجال يقسم ذلك الفتى ثم يفرق قسميه مقدار رمية الغرض، والناس ينظرون، وهذا من أعظم الفتن، ثم يحييه فيقوم حياً، فيقول الدجال: ما تقول في؟ فيقول: ما ازددت بك إلا كفراً، أنت الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

فيريد أن يقتله قتلاً حقيقياً فلا يسلط عليه، ويرى على ترقوته -على رقبته- نحاساً، فيقيده ويرميه في نهر يعتقد أنه نار، والحق أنه رماه في نهر يؤدي به إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (هذا -أي: الشاب- أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)؛ لأنه لا يوجد شيء ندعو إليه أعظم من التوحيد، وشهادة هذا الرجل أجلت للناس أمر التوحيد وبينت لهم كذب هذا الرجل -أي: الدجال- وبينت لهم أن الله جل وعلا منزه عن العيب والنقائص، وأنه لا يمكن لمؤمن أن يرى ربه قبل أن يموت، وبهذه الشهادة التي قام بها هذا الشاب قال صلى الله عليه وسلم: (هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين).