أيها المؤمنون! لا ريب أن هذا المقطع العظيم من سيرته العطرة وأيامه النظرة صلوات الله وسلامه عليه، يقف عندها المؤمن ليستلهم دروساً وعبراً، وآيات وخبراً، وما أعظم تلك الدروس، وما أجل تلك العبر! ألا وإن أولها: عظمة الرب جل جلاله: الله تبارك وتعالى هو الحي وحده حياة لا موت فيها، والله تبارك وتعالى وحده من بيده مقاليد السماوات والأرض، والله جل وعلا وحده من بيده النفع وبيده الضر، وهذا سيد الخلق ورسول الحق، وصفوة الله من خلقه أجمعين، ومع ذلك ما كان له ولا لغيره أن يتجاوز مقام العبودية أبداً، فالله خالق وما سواه مخلوق، والله رب وما سواه مربوب، فمتى ينظر أولئك المتكبرون المتجبرون المتألهون بمالهم أو بسلطانهم أو بجاههم، متى يعلمون أن حقيقية الموت لم يسلم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على قربه وجلال مكانته، وعلو منزلته، ودنوه صلى الله عليه وسلم من ربه، وقربه منه، ومع ذلك ذاق صلى الله عليه وسلم من الموت وكربه.
ولاقى صلى الله عليه وسلم من الأوجاع والشدائد حتى أضحى وهو نبي الأمة وأفصح الناس لساناً وبياناً ومقاماً، يطلب منه أن يتكلم فيعجز ويثقل لسانه عن الكلام، حتى أصبح صلى الله عليه وسلم يصلي الناس على أمتار من بيته ولا يستطيع أن يقوم إليهم، ولا أن يشاركهم صلاتهم، ولا أن يؤمهم حتى يثبت الله لكل أحد أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان في المقام المحمود، والمنزلة العظيمة التي هو فيها، إلا أنه عليه الصلاة والسلام يبقى بشراً، فلا يتعلق أحد من الخلق بأي مخلوق كائناً من كان، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا عبد صالح، ولا ولي فاضل، وإنما ينبغي أن تصرف القلوب كلها لله جل وعلا الواحد القهار.
قوله:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[الأنبياء:٣٥]، عموم لا تخصيص فيه، وإطلاق لا قيد له، فكل ذي روح لا بد أن يوفى أجله، ويؤتى كتابه، ويموت كما يموت غيره:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:٢٧].
لقد دعا الله جل وعلا الناس إلى أن يتكلوا على الله جل وعلا وحده لأنهم إذا توكلوا على شخص، واعتمدوا عليه في إنجاز شيء فربما مات هذا الذي توكلوا عليه قبل أن يقضي حوائجهم، ولذلك قال الله لنبيه:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:٥٨].