[وقفة مع قوله تعالى: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته)]
ثم لما بين الله جل وعلا لنبيه وأرشده إلى أن يكثر من ذكر الله ذكر له أنموذجاً من عباده الصالحين الذين يذكرون ربهم، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:٢٠٦] هذه آخر آية في سورة الأعراف وأول آية فيها سجدة في القرآن نقف عندها كثيراً.
قال الله: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ)) (عند) مكانية، والملائكة الأصل أن أمكنتهم -أي: مساكنهم- السماء، كما جاء في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله! ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)، والملكوت الأعلى ملكوت إيماني تعمره الملائكة؛ العرش تحمله الملائكة، وحول العرش طائفة أخرى تطوف، ثم لكل سماء خزنتها، والملائكة لهم آداب عامة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:٦٤]، فهم يستحيون عظيم الحياء من ربهم، يقول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث النواس بن سمعان: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بما شاء من الأمر، ثم يمضي على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكته: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير).
والملائكة منهم أعلام معروفة كجبريل وإسرافيل وملك الموت وميكال ومالك وهو أحد خزنة النار، وهاروت وماروت وهذان ابتلى الله جل وعلا بهما أهل بابل، وغيرهم ممن نعلم ما وكل إليهم وما أسند إليهم، لكننا لا نعلم أسماءهم؛ ولكن نقول بالجملة: إن الملائكة يتفقون مع الجن في أننا لا نراهم، ويتفق الجن معنا أن كلينا مكلفان، والملائكة والجن كلاهما عقلاء مثلنا، فنتفق الثلاثة في أننا جميعاً عقلاء: الإنس والجن والملائكة، ونختلف في أن الجن والإنس يتفقان أنهما مكلفون والملائكة غير مكلفين.
والجن تحكمهم الصورة، والملائكة لا تحكمهم الصورة، والمعنى: لو أن جنياً تشكل في هيئة مخلوق، ثم قتل ذلك المخلوق فإنه يموت الجني في الهيئة التي تشكل بها، وأهل العلم يقولون: لو أن ملكاً تشكل في هيئة كمثل جبريل لما تشكل في صورة رجل تام الخلقة لـ مريم، لو قدر جدلاً أن أحداً طعنه فإنه لا يموت، فالصورة لا تحكمه كما تحكم الجني، وأحد التابعين دخل على أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه في بيته في المدينة وهو يصلي، فمكث ينتظر أبا سعيد أن يفرغ من صلاته، فنظر في عراجين البيت فإذا حية فهمَّ الرجل الذي ينتظر أبا سعيد أن يقتلها، فأشار إليه أبو سعيد أن مكانك، فلما فرغ من صلاته أخذ بيده وأخرجه من الدار وأشار إلى بيت غير بعيد، قال: انظر إلى تلك الدار، قال: نعم، قال: إنها كان يسكنها رجل منا معشر الأنصار، فلما كان يوم الأحزاب كان هذا الرجل حديث عهد بعرس، فكان يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم عند الخندق ويستأذنه إذا أمسى، فيأذن النبي له؛ لأنه حديث عهد بعرس، فذات يوم قال له صلى الله عليه وسلم: (خذ معك -أو عليك- سلاحك فإني أخاف عليك بني قريظة -أخاف عليك غدر اليهود- فأخذ الرجل سلاحه ومضى إلى بيته، فلما أتى الدار إذا بزوجته خارج الدار، فأصابته الحمية والغيرة وسل سيفه، فقالت: لا تعجل -أي علي- وأشارت إليه أن ادخل الدار، فدخل فإذا حية قد التفت على فراشه، فأخرج سيفه فضربها، قال أبو سعيد رضي الله عنه وهو يحكي الخبر عن هذا الرجل، قال: فلا يدرى أيهما أسبق موتاً، أي: الرجل الأنصاري الضارب أو الحية فكلاهما مات في آن واحد، فلما علم صلى الله عليه وسلم بهذا قال: إن لكم إخواناً من الجن يعمرونها -أي البيوت- فإذا رأيتم مثل هذا فلا تقتلوه حتى تحرجوا عليه ثلاثاً)، هذا شاهد على قول من يقول: إن الجني تحكمه الصورة، لكنني لا أعلم دليلاً على قول من يقول: إن الملك لا تحكمه الصورة، لكنه من ناحية العقل قريب جداً، أما في النقل فلا أعلم له دليلاً كما قلت.
والملائكة تعرف معنى البشارة فيفرحون بحمل البشارات إلى الناس؛ فنبينا صلى الله عليه وسلم رزق من زوجته خديجة ستة أولاد؛ أربعة إناث واثنان ذكران: عبد الله والقاسم وكلاهما مات قبل البعثة، وهما صغيران، فبقيت البنات الأربع، والبنات الأربع ثلاث منهن توفين في حياته صلى الله عليه وسلم، فلم يبق له أحد من ظهره الشريف إلا فاطمة فزوجها علياً، وإن كان تزويجها لـ علي قبل وفاة أخواتها وقد زوجها بعد انصرافه من بدر لـ علي، فأنجبت الحسن والحسين من علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلما أنجبت تعلق صلى الله عليه وسلم بـ الحسن والحسين كونهما كانا ابناه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له أولاد يدرجون في بيته الطاهر، فكان يحبهما ويضع كل أحد منهما على فخذ ويقول: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)، ويخرج لهما لسانه ويداعبهما بإخراج لسانه لهما، وينزل من المنبر ليحملهما، فهذا يصل خبره إلى الملكوت الأعلى، فتنافس الملائكة في أن تنقل البشارة لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فيقول صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة: (أرأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟ ملك نزل الليلة من السماء لم ينزل قبل، استأذن ربه في أن ينزل من السماء ليسلم علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، فهذه من علاقة الملائكة عليهم السلام مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، لكن أعظم الملائكة علاقة معه جبريل، وجبريل شخصية في منتهى العظمة بقدر الله، فإن جبريل يحمي النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث: (أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمداً يعفر وجهه بين أيديكم لأفعلن وأفعلن، فلما سجد صلى الله عليه وسلم جاءه أبو جهل ثم تراجع، قال عليه الصلاة والسلام: لو أقدم علي لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)، وفي بعض الروايات ما يؤكد أن جبريل هو الذي دفع أبا جهل، وفي ساحة القتال في يوم بدر كان جبريل يقود الملائكة، وكما أن جبريل ولي لرسول الله في الجانب العسكري فإنه ولي له في الجانب العلمي، يقول صلى الله عليه وسلم يسأله الصحابة: (ما أحب الأماكن إلى الله؟ قال: المساجد.
قالوا: وما أبغضها إلى الله؟ فسأل جبريل، فقال له جبريل: الأسواق)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الدين أخبرني به جبريل آنفاً)، فهو شخصية عسكرية وشخصية علمية، وفي نفس الوقت شخصية عبادية، (لما مرض صلى الله عليه وسلم كان جبريل يرقيه ويقول: باسم الله أرقيك من كل شر يؤذيك)، فيبقى يرقيه عليه السلام، وهو في المقام الأول ينزل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب جبريل حباً عظيماً.
وهو الذي كان معه رفيقاً في هجرته، وجبريل كان يعلم الصحابة مادة الدين؛ ويعلمهم الطريقة التي ينقلون بها الدين، سيأتي حديث عمر: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد)، وهذا لا يجتمع في وصف أحد؛ لأن أهل المدينة من الصحابة آنذاك يعرف بعضهم بعضاً، فالذي قدم من قريب من بيته من داره مترجلاً شعره ليس عليه أثر سفر، بياض ثيابه شديد هذا يدل على أنه قادم من أهل المدينة، أما الأعراف الذين يأتون من خارج المدينة لابد أن يرى عليهم أثر السفر، لكن هذا الجالس شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب وفي نفس الوقت لا يعرفه منا أحد، (ثم أسند يديه إلى ركبتيه، قال: أخبرني عن الإيمان) عن الإسلام عن الساعة، وجبريل هو الذي نزل بهذا على رسولنا صلى الله عليه وسلم، لكنه أسلوب في التعليم.
وأوكل الله جل وعلا إلى ميكال النزول بالقطر من السماء، وإسرافيل أوكل الله جل وعلا إليه النفخ في الصور، وملك الموت أوكله الله جل وعلا بقبض الأرواح، وهؤلاء المباركون كلهم يجتمعون في أنهم كما قال الله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:٢٠٦]، والسجود لله جل وعلا أعظم منقبة ولهذا حرم الله جل وعلا على النار أن تأكل من ابن آدم أعضاء السجود.
هذا وعظ على وجه الإجمال حول سورة الأعراف نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
هذا ما تيسر إيراده وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله.
والحمد لله رب العالمين.