[من كمال التوحيد الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى]
أيها المؤمنون! ألا وإن من كمال التوحيد: أن تعلموا أن لله جل وعلا الأسماء الحسنى والصفات العلى، قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:١٨٠]، ويتحرر من هذا أمران: أولهما: أن من أعظم الدلالة على تحقيق التوحيد دعاء الرب تبارك وتعالى في كل آن وحين؛ دعاء مسألة ودعاء عبادة، دعاء بالحال ودعاء بالمقال.
فقد وقف نبيكم صلى الله عليه وسلم وليس بينه وبين فراق الدنيا إلا بضعة أشهر، وهو يعلم صلى الله عليه وسلم أن الأجل قريب، وأن الرحيل قد حان؛ لأن الله أنزل عليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:٣]، فوقف وليس بينه وبين الموت إلا قرابة سبعين يوماً أو أكثر، وقف صلى الله عليه وسلم على ناقته القصواء يدعو الله جل وعلا في يوم عرفة, قال من رآه يدعو صلوات الله وسلامة عليه: رافعاً يديه كاستطعام المسكين صلوات الله وسلامة عليه، يدعو الله بلسانه ويدعو الله بحاله صلوات الله وسلامه عليه, فحقق التوحيد، وهو الدعاء هنا عبادة ومسألة، مقالاً وحالاً صلوات الله وسلامه عليه, ولا غرو في ذلك ولا عجب فهو عليه الصلاة والسلام إمام الموحدين، وسيد المتقين، عليه من ربه أفضل صلاة وأتم تسليم.
فتحقيق هذا الأمر على كل آن وحين، وإظهارك لله جل وعلا فقرك ومسكنتك وحاجتك، إصرارك على الاستغفار، ومداومتك على السؤال، كل ذلك من أسباب قربك من الله جل وعلا.
ومن قرائن توحيدك لربك سبحانه وتعالى: عقدك لأناملك بالتسبيح، فتذكر الله وتهلله، ثم بين الفينة والفينة تقطع ذكرك بسؤال الرب جل وعلا من خيري الدنيا والآخرة، تقول كما قال الله في نعت الأخيار: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:٢٠١].
وتتذكر ذنباً سابقاً فتذرف عيناك ويجل قلبك، وتزدلف إلى الله بأن يستر عليك في الدنيا والآخرة، وتذكر قريباً لك قد مات ولت أيامه وخلا زمانه فتسأل الله جل وعلا له؛ لعلمك أن الله جل وعلا يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.
وكم انتفع مقبور من دعاء حي على وجه الأرض، لا ما يصنع كثير من الناس اليوم في بعض البلدان من أنه يذهب إلى أهل القبور يرجو منهم نفعاً أو ضراً، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
والمقصود من ذلك: إذا تحقق عند العبد أن الله جل وعلا هو القادر، فإنه سيكثر من الدعاء والإلحاح على رب العالمين، وكلما ضعف يقين العبد بأن الله هو القادر قل دعاؤه، ونبضت مسألته، وقل التجاؤه إلى الله وسؤاله ربه تبارك وتعالى، وهذه كلها قرائن تبين للعبد أين هو من مقام توحيد رب العالمين جل جلاله.
هذا الذي يتحرر أولاً من مسألة الأسماء والصفات.
أما الذي يتحرر آخراً: فاعلم يا أخي! أن وجه الله جل وعلا أعظم الوجوه وأكرمها، وأن اسمه تبارك وتعالى أعظم الأسماء وأحسنها، وأن صفاته جل وعلا أعظم الصفات وأجلها، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١].
وله جل وعلا صفات جلال وصفات جمال، فمن صفات جلاله جل وعلا وكماله أنه الحي الذي لا يموت، فأذل الله بالموت كل مخلوق، وأهان به الكياسرة والقياصرة، والملوك والأمراء، والأغنياء والفقراء وأهل المسكنة، والأنبياء والمرسلين، والأبرار والفجار، والمؤمنين والكفار، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].
فهو جل وعلا الملك الواحد المدبر المتصرف، يقول صلى الله عليه وسلم في دعاءه: (أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت، والأنس والجن يموتون).
ومن علم أن الله أذل عبادة بالقهر علم أن العزة الكاملة للرب تبارك وتعالى، بل ما من صفة كمال إلا والله جل وعلا له هذه الصفة، وما من صفة نقص إلا والله جل وعلا منزه عنها كل التنزه، فهو جل وعلا وتقدس، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:٣].
وتنزه فلم يتخذ صاحبه ولا ولداً، ولما قالت النصارى في ربها جل جلاله: إن المسيح ابن الله، وقالت اليهود: إن عزيز ابن الله، وقال القرشيون عن الملائكة: بنات الله، بيّن الله جل وعلا أن هذا من أعظم الفرية وأجل الكفر، وأنه أمر ترتج له الجبال وترجف له الأرض، قال الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:٨٨ - ٩١].
ثم قال جل وعلا يربي قلوب عباده، ويصفي أفئدة أولياءه، ويبين لخلقه جميعاً كمال غناه: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:٩٢].
يتخذ الولد من يحتاج إلى المعين، ومن يحتاج إلى النصير، ومن يحتاج إلى من يسليه، ومن يحتاج إلى من يعضده، ولذلك فنعمة الولد عنصر كمال في المخلوق، لكن الله جل وعلا غني عن كل هذا، ولهذا قال سبحانه: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:٩٢] لماذا يا ربنا؟ {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [مريم:٩٣]، وكل من ألفاظ العموم، فالملائكة والأنبياء والمرسلون، والجن والأنس وغيرهم ممن نعلم ومما لا نعلم {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:٩٣].
فلا يأتون وفق مشيئتهم، بل الله خلقهم وهو الذي يعلم عددهم، وهو الذي جبلهم على أن يأتوا بين يديه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:٩٣ - ٩٥].
ومثل هذه الآيات من وعيد القرآن وقوارعه، يرجف لها قلب المؤمن، وتجعله على بينه من ربه، يخشى لقاء الله تبارك وتعالى، وبمثل هذا توعظ قلوب المؤمنين.
وإن من أعظم أخطاءنا في صحوتنا المباركة أن يلجأ الناس إلى الأناشيد أو المسارح أو التمثيليات يريدون أن يغيروا بها أفئدة الناس، فلا يغير القلب إلا كلام الرب تبارك وتعالى، ثم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد يرخص بعض العلماء باتخاذها في مواطن وسائل ترفيه مباحة، قد يقول هذا بعض الفضلاء من العلماء، لكن ينبغي على المؤمن أن يجعل قلبه لا يتأثر بشيء أعظم من كلام الله، ولا يقبل شيئاً أعظم بعد كلام الله من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ألم يقل الله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:٦]؟! ألم يقل الله جل وعلا: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]؟! فالمؤمن ذو القلب الحي يطمئن قلبه إذا ذكر الرب تبارك وتعالى.
جعلنا الله وإياكم ممن تطمئن قلوبهم بذكره سبحانه.