للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقفة مع فاتحة (ص)]

قال الله في فاتحة سورة ص: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:١ - ٢].

هناك قاعدة عند العلماء: فإذا قالوا في تفسير قول الله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:١].

أو قول الله: {وَالْعَصْرِ} [العصر:١].

أو قول الله: {وَالضُّحَى} [الضحى:١].

أو قول الله: {وَالنَّازِعَاتِ} [النازعات:١].

أو قول ربنا: {وَالْفَجْرِ} [الفجر:١].

يقولون: لله جل وعلا أن يقسم بما شاء من مخلوقاته, وليس للعبد أن يقسم إلا بالله، وهذا حق.

لكن هل يناسب أن يأتي مفسر فيقول هذه القاعدة عند قول الله جل وعلا: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:١]؟

و

الجواب

لا يناسب؛ لأن القرآن ليس مخلوقاً, بل هو كلام الله وصفة من صفاته, فالعبارة: (ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته) وإن كانت صحيحة, لكن إيرادها هنا يوهم أن القرآن مخلوق, والقرآن منزل غير مخلوق.

واختلف العلماء في جواب القسم على ثمانية أقوال, سنأخذ واحداً هو الراجح عندي والعلم عند الله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:١] جواب القسم محذوف، والتقدير: ليس الأمر كما تزعمون.

قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:٢ - ٣].

يخاطب الله مشركي قريش و (كم) , من حيث التأصيل العلمي تنقسم إلى قسمين: كم خبرية، وكم استفهامية, تتفقان في أمور: تتفقان في أن كليهما اسمان، وكليهما مبنيان، وكليهما له الصدارة في الكلام.

وتختلفان في أمور من أشهرها: أن كم الخبرية لا تحتاج إلى جواب, يراد بها التعبير عن الكثرة.

وكم الاستفهامية تحتاج إلى جواب لأنها سؤال واستفهام.

و (كم) هنا قول العزيز الحميد: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:٣] خبرية، استفهامية؟ يخبر الله عن أمم كثيرة لا يعلمها إلا الله, أهلكها الله من قبل، عندما أهلكها {فَنَادَوْا} [ص:٣].

ولم يذكر الله هل نادوا مستغيثين أم نادوا مؤمنين, لكن تكلم الله عن أمم أهلكها بعذاب، فالله يذكر أنهم عندما جاءهم العذاب نادوا مستغيثين، كفرعون عندما قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:٩٠] أو طلبوا الاستغاثة أو طلبوا الإيمان.

ثم قال تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:٣] يعني: ليس الوقت وقت ينفع فيه الندم, أي أنهم نادوا فعلاً لكن الذي منع الفائدة من مناداتهم أن الوقت ليس وقت مناداة لأنه إيمان إجباري، وليس اختيارياً وللعلماء تعبير آخر يقولون: إيمان اضطراري، والإيمان الاضطراري لا يقبله الله, وإنما يقبل الله الإيمان الاختياري.

قوله: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:٣] التاء زائدة و (لا) نافية تعمل عمل ليس عند سيبويه وأتباعه.

ويقول النحويون: إنها إذا عملت عمل ليس فلابد من حذف أحد جزأيها، أي المتبدأ -أو الخبر، والمحذوف هنا هو الاسم؛ لأن ما جاء بعدها منصوب، واسمها يكون مرفوعاً، والمرفوع غير مذكور لأن الله قال: {وَلاتَ حِينَ} [ص:٣] بالنصب فدل على أن الاسم محذوف.