فمن ذلك كله يفهم أن الموت أمر محتوم، وأمر لازم، ولكن الله جل وعلا أخفى عن كل أحد ساعة موته، قال ربنا تبارك وتعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}[الأنعام:٥٩] وفسر صلى الله عليه وسلم مفاتح حالغيب، فقال -كما في المسند من حديث ابن عمر -: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله،) ثم تلا خواتيم سورة لقمان: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان:٣٤]، فلا تعلم نفس بأي أرض تموت، ومن جهل المكان أولى وأحرى به أن يجهل الزمان، فكل إنسان يعلم أنه ميت، وهنا نقول: إن حقيقة الموت - أي علم الإنسان بأنه يموت- لا أعلم أحداً حتى الساعة خالف فيها، فأهل الكفر وأهل الملل المتفرقة، وأهل النفاق، وأهل الفسق، والدهريون، والبعثيون، والشيوعيون، والماركسيون، وغيرهم من أهل الملل والنحل من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة لا يظهر لنا أنهم خالفوا في حقيقة الموت، فلم يأت أحد من الناس ليقول: إنه لا يموت، ولكن الخلاف بيننا وبينهم فيما بعد الموت من بعث ونشور، فحقيقة الموت قد سلم بها الجميع، ولذلك ترى الله جل وعلا يحكي عن كفار قريش قولهم:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[الجاثية:٢٤] فأثبتوا لأنفسهم أنهم يموتون، وإن نسبوا ذلك إلى الدهر، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وذلك الرجل البالغ في الإثم من القرشيين لما أخذ عظاماً قد بليت، وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعدما أرمت؟! ونفخها بفيه حتى تناثرت، فأنزل الله جل وعلا قوله:{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[يس:٧٧ - ٧٨]، فذلك القرشي لم ينكر أن الناس سيموتون، لكنه أنكر أن يكون هناك بعث بعد ذلك الموت.
فحقيقة الموت قد سلم بها كل أحد، وأيقن كل أحد، بأنه ميت لا محالة، ومقدار إيمانك ويقينك بأنك ستبعث بعد الموت هو الدافع للعمل الصالح.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء فالموت أمر حتمي لازم لا ينجو منه أحد، وقد جاء في الحديث عن ابن عباس:(أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت والجن والأنس يموتون)، وظاهر الكتاب والسنة أن الموت أمر حتمي لازم لا ينجو منه أحد، قال تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص:٨٨]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:٢٦ - ٢٧]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران:١٨٥]، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ}[الجمعة:٨]، {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}[آل عمران:١٥٤]، فالموت أمر حتمي لازم لا يفر منه أحد.
وهنا نقول: إنه لا ينجي من الموت حذر، ولا ينجي من الموت سبب، ولا يعصم من الموت ملجأ ولا نفق ولا سرداب، ولا سلم في السماء، ولا غير ذلك مما يخطر ببالك أو لا يخطر ببالك، فالموت أمر حتمي لازم، ولذلك ورد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنه لما مكث في مسجده يحدث الناس ويفسر لهم كتاب ربنا جل جلاله وصل إلى قول الله جل وعلا:{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}[النمل:٢٠] فقال رضي الله تعالى عنه يخبر من حوله: إن الهدهد كان يعمل لسليمان أنه يرى له تخوم الأرض، فينظر إلى مواقع الماء ومواقع القطر.
فتعجب نافع بن الأزرق -وهو رجل من الخوارج كان حاضراً- من مقولة ابن عباس، وقال: غلبت اليوم يا ابن عباس، قال: وما ذاك؟ قال: تزعم أن الهدهد يعلم ما تحت تخوم الأرض من مواقع الماء؟ قال: نعم، قال: يا ابن عم رسول الله! كيف والطفل الصغير يأتي بالفخ فيضع عليه شيئاً من التراب فيقع فيه الهدهد دون أن يدري ما تحت ذلك التراب؟ فقال له ابن عباس ذلك الحبر العظيم: يا ابن أخي! خفت أن تخرج من حلقتي وتقول: غلب ابن عباس، وإلا لما أجبتك، ثم أجابه فقال: يا ابن أخي! إنه إذا نزل القدر عمي البصر وبطل الحذر؛ لأنه لابد من أن يقع أمر الله، فلا يمنع وقوع أمر الله شيء، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}[الأحزاب:٣٨]، {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}[الأنفال:٤٢].
ولذلك قد ترى الحادث المروري فتقول عند رؤيتك له: لن ينجو منه أحد، فترى القوم جميعاً سالمين، وترى الحادث المروري فتقول: هذا حادث يسير لا يصاب فيه أحد، فإذا بالقوم أمواتاً، وما ذلك إلا لأن الأمر أولاً وأخيراً منوط بما قدر له الله أن يكون، فما قدر الله له أن يكون لابد من أن يكون حتماً ولزاماً، قال الله جل جلاله:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف:٣٤].