فكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه كان عناية إلهية وفضلاً ربانياً محضاً، ليس لأحد من البشر كائناً من كان فيه حظاً ولا نصيب.
عاش صلى الله عليه وسلم بعيداً عن أسرته ثم عاد إلى مكة فكفله جده عبد المطلب، ثم ما لبث أن توفي ذلك الجد، ثم كفله عمه أبو طالب، ولم يكن دور أبي طالب أكثر من راع معيشي له صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن لدى أبي طالب حظ من علم، أو أثرة من كتاب، يسقي من خلالها رسولنا صلى الله عليه وسلم، حتى تكونت شخصيته فنشأ بعيداً عما فيه قومه.
وكذلك العاقل إذا رأى مجتمعات الفساد، وأودية الضلال، ومنتجعات الغواية، نأى بنفسه عنها، ولو عاش وحيداً، قال الله جل وعلا:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا}[مريم:٤٩].
فالبعد عن أهل الغواية والفساد والشرور والآثام أول طرائق الفلاح والنجاح، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بعيداً عن محافل الخير، فقد شهد حلف الفضول، وشهد غير ذلك من مآثر قومه في الجاهلية، ثم بدأت إرهاصات البعثة تدريجياً شيئاً فشيئاً من غير أن يعلم صلوات الله وسلامه عليه، فلم يحدث نفسه ذات يوم أنه سيكون نبياً؛ لأنه لا علم له بذلك أصلاً، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يرى رؤيا، وكان لا يرى رؤيا إلا وتأتي مثل فلق الصبح حاضرة ناصعة كما رآها في منامه، حتى دنت البعثة فكان يمشي في طرقات مكة فتسلم عليه الحجارة: السلام عليك يا نبي الله! فيلتفت يميناً وشمالاً فلا يرى شخصاً ولا خيالاً، فيسكت ويبقى على حاله.