للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدلة التي تجعل إبليس من الجن وليس من الملائكة]

والراجح: أن إبليس من الجن لأربعة أمور أو أربعة أدلة:- الدليل الأول: أن الله جل وعلا وصف الملائكة بأنهم (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وإبليس هنا عصى الله جل وعلا ولم يأتمر بأمره.

والثاني: أن الله جل وعلا أخبر أنه خلق آدم من طين، وإبليس اعترف بنفسه قال: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ) والملائكة خلقت من نور كما هو معلوم فدل على أنه من الجن.

والدليل الثالث: جاء مصرحاً به في سورة الكهف قال الله تبارك وتعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُو} [الكهف:٥٠].

ولعل الدليل الرابع قد غاب، فسبحان من وسع علمه كل شيء.

فهذه أدلة على أن إبليس كان من الجن ولم يكن من الملائكة.

فلما امتنع واستكبر طرده الله جل وعلا من المحل السامي وهو السماء ومن المقام الرفيع وهو الرحمة.

{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:٧٧ - ٧٨]، فبعد أن يئس من رحمة الله طلب من الله البقاء: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص:٧٩ - ٨١] فبعد أن علم أنه باق أخبر ربه بأنه سيتسلط على آدم وذريته، والله جل وعلا قد علم هذا في الأزل، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:٨٢ - ٨٣]، ومن هنا يعلم أن العداوة بين إبليس وأبينا آدم عداوة قديمة منذ ذلك اليوم الذي أمر الله فيه الملائكة أن تسجد لآدم وحمل إبليس على عدم السجود أمران: الأول: الحسد على ما كان من فضل الله لآدم.

والثاني: الكبر الذي منعه من أن يسجد لأمر الله جل وعلا.

وقول الله جل وعلا: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:٧٢] فعل أمر، فالله جل وعلا له أوامر وله نواهٍ، والواجب تنفيذ أمره وترك نهيه، لكن من باب التقعيد ترك الأمر أعظم جرماً من اقتراف النهي والدليل: أن الله جل وعلا أمر إبليس أن يسجد لآدم، ونهى آدم أن يأكل من الشجرة، فأما إبليس فلم يستجب للأمر وكذلك آدم عليه الصلاة والسلام أكل من الشجرة ولم ينفذ النهي، قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:١٢١]، لكن الله جل وعلا تاب على آدم ولم يتب على إبليس، ومن هنا يُعلم ما ذهب إليه جمع من العلماء إلى أن ارتكاب النهي أهون من ترك فعل الأمر، وإن كان الإنسان مطالب في كلا الحالتين بأن ينفذ أوامر الله جل وعلا وأن يجتنب نواهيه، وحتى تتضح الصورة: لو أن إنساناً أمره الله بالصلاة -وكلنا مأمورون بها- فترك هذا الأمر فإن هذا أعظم من أن يشرب عبد الدخان؛ لأن شرب الدخان أمر نهيت أن تفعله، فشربك للدخان داخل في باب فعلك لأمر نهيت عنه، ولكن تركك للصلاة داخل في باب تركك لأمر أمرت أن تنفده، ولكن هذا ينظر فيه مع النصوص الشرعية؛ لأن لكل أمر ضابطه، وهناك كبائر وهناك صغائر، وهناك لمم، ولكننا نذكر ما هو من مسائل التقعيد.

ثم قال الله جل وعلا: قال إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:٨٢ - ٨٣]، فقال الله تبارك وتعالى له: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:٨٤]، أي: فالحق صفتي والحق قولي، فلذلك جاءت الأولى مرفوعة على أنها خبر لمبتدأ محذوف أو لمبتدأ له خبر محذوف، والثانية جاءت منصوبة على أنها مفعول به مقدم للفظ الفعل (أقول)، فيصبح معنى الآية فالحقُّ وصفي والحقَّ قولي {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:٨٥]، فالله جل وعلا خلق دارين: جنة وناراً، أعد الجنة لأوليائه وأعد النار لأعدائه ولمن عصاه، والله تبارك وتعالى سبقت منه الكلمة: أن يملأ النار ويملأ الجنة، فأما الجنة فإنها قطعاً لا تمتلئ، ولذلك يخلق الله جل وعلا من سعة رحمته لها خلقاً ثم يدخلهم الجنة إنفاذاً لوعده، ورحمة من الله جل وعلا فإن الجنة لا تضيق على أهلها.

وأما النار فإن الله لا يعذب فيها إلا بعدله، ويرحم تبارك وتعالى بفضله، فإنه يضع فيها الجبار تبارك وتعالى قدمه حتى ينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط أي: يكفي يكفي، وبهذا تكون امتلأت حقيقة.

قال تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:٨٤ - ٨٥].

ثم قال الله لنبيه يؤدب أولئك الأقوام من الملأ من قريش: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:٨٦] أي: أنا لا أتكلف صنعة، ولا آتي بشي من عندي، ولا أتكلف أمراً أحاول أن أنال به غيري أو أنافس فيه شخصاً آخر، ولكنه فضل من الله وهداية لكم، قال تبارك وتعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُو} [ص:٨٦ - ٨٧] أي: القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:٨٧ - ٨٨] أي: ولتعلمن خبره ونبأ ذلك القرآن بعد أن يحل العقاب ويحل ما أخبر ووعد الله تبارك وتعالى به، عندها يعلم حقيقة نبأ ذلك القرآن على الوجه البين حين لا يرتاب الكافرون عندما يكون آخر عهدهم بالدنيا وأول عهدهم بالآخرة.

هذا ما أردنا بيانه في وقفاتنا مع سورة (ص)، أسأل الله العظيم الجليل جلت قدرته أن ينفع بما قلنا، وأن يعيننا وإياكم على أمر ديننا ودنيانا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ما تبقى من الوقت نقضيه في الإجابة على الأسئلة.