ذكر النعم التي أُنعِمَ بها على داود عليه السلام
وقد عد الله في هذه الآيات آلاءه وفيأه ونعمه على هذا النبي الكريم، فقال تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:١٧] و (ذا الأيد) بمعنى: ذا القوة في بدنه وطاعته، فقد آتاه الله جل وعلا قوة في بدنه وقوة على إتيان الطاعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود) ثم فسر صلى الله عليه وسلم صلاته فقال: (كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه)، وقال في الصيام: (كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، ولا ريب كونه يصوم يوماً ويفطر يوماً ويصلي كل يوم ثلث الليل يدل هذا على قوة أعطيها ذلك النبي الكريم أعانته على عبادة الله جل وعلا.
{إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:١٧] أي: كثير الرجوع إلى الله، فعندما تسمع أن الله جل وعلا منّ على نبي وأثنى عليه بقوله: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) ففي هذا دليل على أن الرجوع إلى الله فضيلة عظمى، فالذي ينبغي أن نحرص عليه جميعاً أن نكثر من الرجوع إلى الله جل وعلا بالتوبة، والاستغفار، والإكثار من الطاعات، ومصاحبة الصالحين، في كل حين، ولا تنتابك الغفلة أكثر من ذكر الله جل وعلا لعل الله تبارك وتعالى أن يكتبك من الأوابين.
ثم عد الله جل وعلا مزية أخرى خص بها هذا النبي الكريم، قال: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:١٨ - ١٩].
لقد منَّ الله على داود بصوت رخيم جميل، وآتاه الله جل وعلا الزبور، فكان يردد الزبور وقد خففها على لسانه حتى قال صلى الله عليه وسلم: (إنه كان يأمر بالدابة فتُسرج فيقرأ الزبور كاملاً) أي: يقرأ الزبور كاملاً قبل أن ينتهي خدمه وحشمه من إسراج الدابة له، وهذا من فضل الله جل وعلا عليه.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا ردد الزبور ورتله وقرأه تجاوبت معه الجبال الصم، والطيور البهم حتى إن الطير يقف عن الطيران ويجتمع صافات يردد مع داود عليه الصلاة والسلام ما يقوله، وحتى الجبال وهي صماء لا تعقل ولا تتكلم فإذا رتل عليه الصلاة والسلام زبوره، وذكر الله جل وعلا فيه، جاوبته تلك الجبال فضلاً من الله جل وعلا لهذا النبي الكريم.
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ} [ص:١٨ - ١٩] أي: من الجبال والطير {لَهُ أَوَّابٌ} [ص:١٩] أي: يردد معه قوله وذكره وتلاوته لآيات الله تبارك وتعالى.
وهذه فضل من الله جل وعلا وسيأتي التعليق عليها.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص:٢٠]، شد الملك يكون بكثرة الوزراء، وكثرة الجنود، وقوام العدد، وقوام العدة، وما إلى ذلك مما يصلح به الملك فإن الله جل وعلا مكن لداود في الأرض وشد ملكه بما آتاه من وزراء وجنود لا يحصى عددهم، قال الله جل وعلا: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:١٠]، حتى قيل: إنه كان يتعامل مع الحديد كالعجين في يده، وهوأول من صنع الدروع، قال الله تبارك وتعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:١١] أي: دروعاً تسبغ عليه عورته إذا حارب فلا يصيبه كثير من الأذى في الحروب من السهام وغيرها من أدوات الحرب في ذلك العصر.
ثم قال الله تبارك وتعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:٢٠]، (الحكمة) الصحيح أنها النبوة، (وفصل الخطاب) أي: القدرة على الفصل بين الخصوم، وقيل: البلاغة في القول، وقيل -وهو بعيد- أنه أول من قال: أما بعد، وهذا فيه نظر؛ لأن داود عليه الصلاة والسلام لم يكن عربياً حتى يقال: إنه أول من قال: أما بعد.
لكنه قول مذكور في بطون الكتب، والله تعالى أعلم بصحته.