الأمر الثاني: أن تعلم أن الباقيات الصالحات توفيق من الله، وأن الهداية نور من الله يضعه الله جل وعلا في قلب من يشاء لا يناله أحد بعلمه ولا بجهده ولا بسعيه ولا بغدوه ولا برواحه، قال الحق تبارك وتعالى:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور:٤٠].
ولقد شبه الله جل وعلا قلب المؤمن بالكوة التي في الجدار والتي فيها مصباح، فالكوة نفسها هي قلب المؤمن والمصباح الذي فيها يضيء من خلال زيت، فيجتمع فيه سببان لأن يضئ، المصباح سبب، وهذا المصباح متكئ على سبب آخر هو الزيت، فالزيت تفسيره: هي الفطرة التي جعلها الله جل وعلا في قلوب الناس، والمصباح هي الآيات البينة التي أنزلها الله على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذه الفطرة تكاد تهدي صاحبها من غير دليل كما أن الزيت يكاد يضيء من غير نار، فتشع هذه الفطرة مع آيات الله البينات في قلب المؤمن.
والكوة أمر مقوس محفوظ، فالشعاع فيه يبقى ظاهراً ممتلئاً، وكذلك قلب المؤمن يشع بنورين نور الفطرة التي فطره الله جل وعلا عليها ونور آيات بينات استفاد منها وجعلها الله جل وعلا في قلبه.
ولا سبيل إلى الفطرة ولا إلى الآيات البينات إلا بالله تبارك وتعالى، قال العز بن عبد السلام رحمه الله: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله فكيف يوصل إلى الله بغير الله؟ قال: فإذا كان النور يهدي إلى الله فإنه لا ينكر أن يطلب إلا من الله، قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه:{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ}[النور:٣٥]، ثم قال الله الكلمة التي توجب على العبد أن يستكين بين يدي ربه قال جل وعلا:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}[النور:٣٥].
إن العبد إذا تأمل من حرم من هذا النور يعلم أنه فضل من الله، فكم من أستاذ جامعي لا تكاد توجد لغة إلا ويجيدها تتسابق إليه الفضائيات وتتزاحم عليه القنوات وله المال الوفير والجاه العظيم لكن غاب عنه نور الله جل وعلا فلم تكتحل عيناه يوماً بالسجود لرب العالمين تبارك وتعالى.
فانظر فيما وصل وعما ضل حتى تعلم أن قول الحق:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}[النور:٣٥]، يستوجب أن يستكين العبد بين يدي مولاه، يسأل الله جل وعلا بكرة وعشية أن يهديه إلى نوره المبين وإلى صراطه المستقيم قال الله جل وعلا:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:٥٢].