[الشواهد الدالة على عدم معرفة العبد لربه]
نختم بالشواهد -عياذاً بالله- على أن العبد لا يعرف قدر ربه عافانا الله وإياكم من هذا البلاء: أعظم ذلك الشرك بالله، فمن أشرك مع الله غيره لم يعرف لله جل وعلا قدراً البتة، ولهذا حكم الله على هؤلاء بأنهم خالدون في النار، لا يمكن أن يخرجوا منها حتى إنهم إذا استسقوا إنما يسقون ماء حميماً، وعلى هذا فالشرك بالله جل وعلا -كما بينا آنفاً- مفسدة لا تعدلها مفسدة رتب الله جل وعلا عليها أربعة أمور: اثنان في الدنيا واثنان في الآخرة.
قال الله جل وعلا: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:٢٢] هذا في الدنيا.
وقال بعدها بآيات: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:٣٩].
فهذه الأربعة رتبها الله جل وعلا نكالاً على من أشرك به.
ويأتي دونهم من عرف قدر الله من حيث الأصل، وهم عصاة المؤمنين الذين ما قدروا الله جل وعلا حق قدره لكنهم لم يخرجوا عن دائرة الإيمان.
ومن القرائن على هذا نسأل الله لنا ولكم العافية وأقولها سرداً لا يستطيع الإنسان أن يذكرها فراداً: قسوة القلب.
التكبر على الخلق.
البعد عن قيام الليل.
بخس الناس حقوقهم.
وظلم العباد وهذا تبع للأول.
فبخس الناس حقوقهم وظلمهم من أعظم الدلائل أن العبد لا يعترف بسلطان الله جل وعلا عليه.
المجاهرة بالمعاصي، يقول الله موبخاً من عصاه: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:١٤].
اليأس من رحمة الرب تبارك وتعالى.
القنوط من روحه جل وعلا.
هذه وأضرابها تدل من حيث الإجمال على أن العبد ما عرف قدر ربه تبارك وتعالى.
خاتمة المطاف: كلنا نملك أشياء لا يلبث أن تنفد، الله جل وعلا وحده من لا تنفد خزائنه فحري بعبد نفدت خزائنه أن يسأل رباً لا تنفد خزائنه.
الإلحاح على الله جل وعلا في الدعاء وانقطاع العلائق إلا بالرب الخالق جل جلاله، وأن يجمع الإنسان شتات أمره ويضعها بين يدي الله، وأن يفزع الإنسان إلى ربه في الملمات مع شكره تبارك وتعالى في حال السراء، وهذه قرائن عظيمة على أن العبد يعرف ربه جل وعلا.
فاللجوء إلى الله تبارك وتعالى، واستغفاره، وكثرة التوبة تعين على طاعة الرب جل وعلا.
وهذه فائدة نختم بها وهي: ذكر القرطبي رحمه الله: أن الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم وأرضاهم- اجتمعوا يتدارسون القرآن، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: لقد قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أرجى من قول الله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:٨٤] ثم قال الصديق: فإن شاكلة العبد العصيان ولا يشاكل الرب إلا الغفران، أي: أن الله جل وعلا حقيق به أن يغفر كما أن العبد عرضة لأن يعصي الله جل وعلا.
فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لقد قرأت القرآن كله من أوله إلى أخره فلم أجد آيةً أرجى من قول الله: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:١ - ٣] قال: إن الله قدم غفران الذنوب على قبول التوبة.
قال عثمان رضي الله عنه: قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أجد آية أرجى من قول الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:٤٩].
وقال علي رضي الله عنه وأرضاه: وقرأت القرآن كله فلم أجد آية أرجى من قول الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣].
قال القرطبي رحمه الله بعد أن حكى هذا الخبر والأقوال الأربعة قال: وأنا -أي: القرطبي - أرجى آية في كتاب الله قول الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢].
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله جل وعلا على قوله، وأعتذر إن قصرت، وعفواً إن أطلت فما أردت إلا الخير ما استطعت.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.