[ذكر خلق الناس من نفس واحدة وبيان حالة التضرع لله في حال الضراء]
قال الله جل وعلا بعدها في آيات أخر من هذا السورة المباركة:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الأعراف:١٨٩]، النفس المذكورة هي: نفس آدم، وآدم عليه السلام نبي مكلم كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث:(قيل: يا نبي الله! أكان آدم نبياً؟ قال: نعم، نبي مكلم)، فالله يقول:((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ))، والخطاب للناس، ((مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) هي نفس آدم عليه الصلاة والسلام، ((وَجَعَلَ مِنْهَا)) أي: من نفس آدم: ((زَوْجَهَا))، وكلمة زوج في الآية المقصود بها.
أمنا حواء، خلقها الله جل وعلا من أحد أضلاع آدم، قال الله معللاً:((لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا))، فالبيوت ينبغي أن تبنى على الطمأنينة والسكينة، ثم ينتهي الخطاب القرآني هنا عن آدم وزوجه، ويأتي الخطاب عن جنس البشر لا عن آدم ولا عن زوجته، قال الله:((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا))، ثم قال:((فَلَمَّا تَغَشَّاهَا))، وهذا انتقال في الخطاب لا يمكن أن يطبق على آدم؛ لأن ما سيأتي بعده داخل في منظومة الشرك، وأنبياء الله منزهون عن الشرك، فقال الله تبارك وتعالى:((فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ)) أي: الزوجة: ((حَمْلًا خَفِيفًا))، وهذه أولى درجات الحمل.
ثم قال ربنا وهو الخالق:((فَلَمَّا أَثْقَلَتْ)) أي: ازداد الحمل وهناً على وهن، وأصبح الذين كانوا بالأمس يستبشرون بالحمل يخافون اليوم من آلام الولادة، يخافون أن يفقدوا الزوجة، فيصبح في الناس شدة خوف، فيقول الله جل وعلا:((فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا)) أي: تضرعا إلى الله بسلامة المولود وصلاحه وهما: الأب والأم، ((لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)).
قوله:(فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) يبينها الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيء)، فالله يقول:{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، ولما ذكر الله القرآن، قال لمن كذب القرآن قال:{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا}[الإسراء:١٠٧]، فإيمان الناس بالقرآن لا يزيد القرآن كمالاً، وكفر الناس بالقرآن لا يورث القرآن نقصاً؛ فالقرآن من عند الله آمن به من آمن وكفر به من كفر، والله جل وعلا غني عن الشركاء غني عن الطاعة لا تضره المعاصي، فقال الله جل وعلا:((فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا))، وهذا كما قلت: لا يمكن أن ينزل على آدم.
إن من أعظم ما بينه القرآن: أن قضية الخلق فيصل، فالله جل وعلا وحده تفرد بالخلق والرزق، وبما أنه جل وعلا وحده تفرد بالخلق والرزق فلزاماً أنه لا ينبغي أن تفرد العبادة إلا له تبارك وتعالى، ولهذا لما أراد الله أن يقيم الحجة على خلقه قال:{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}[الأعراف:١٩٠ - ١٩١]، كيف يشرك ويساوى ما بين مخلوق لا يخلق مع الخلاق العظيم جل جلاله؟! ومن جملة ما دلت عليه الآية: أن الإنسان جُبِل على التضرع إلى ربه في الضراء، حتى أهل الكفر، قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا}[الإسراء:٦٧]، والضراء في الغالب لا تميز المؤمن من الكافر، لكن يميز الكافر من المؤمن إذا انتهى الضر ورفعت البلوى بقدر الله، قال الله جل وعلا:{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ}[يونس:١٢]، وأولياء الله والعارفون به والمؤمنون به؛ يعبدونه جل وعلا، ويتضرعون إليه في السراء والضراء، كما قال ابن قدامة: ما الذي على لوح ترفعه أمواج البحر وتضعه بأفقر إلى الله جل وعلا منك وأنت في مكانك هذا.
فحاجة أي أحد إلى الله جل وعلا سواء، فالإنسان لو دخل قصور الملوك، وبيوت الأثرياء، ودهاليز أهل الثراء هو فقير إلى الله كفقر من هو في البحر على لوح لا يمكن أن يستغنى عن الله طرفة عين، وعندما يعرف العبد أنه في أعظم حاجة إلى ربه، فهو الذي عرف ربه حقاً؛ لأن معرفة العبد بفقره إلى الله يورثه انكساراً، والانكسار يورثه عبادة، لعله بعبادته لربه يستجلب رحمته ويستدفع نقمته، فإذا رفعت البلوى والضر تميز من كان يعبد الله على بصيرة ممن كان يعبده لعارض، تقول العرب: صلى المصلي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا قامَ