للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نبي الرحمة يوصي أصحابه بالأنصار رضوان الله عليهم]

نقول: هذا الموقف الإيماني العظيم لهم رضي الله عنهم وأرضاهم بقي في قلبه عليه الصلاة والسلام حتى مرض مرض الموت، فلما مرض مرض الموت خرج العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فمروا على مجلس للأنصار وهم يبكون، فقال العباس وأبو بكر لهم: ماذا يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلسنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكينا، أي: أنه في مرض الموت ونخاف ألا يتكرر هذا المجلس، فلما دخل الصديق والعباس رضي الله تعالى عنهما على رسول الله أخبراه الخبر هذا في أول المرض، وكان عليه الصلاة والسلام أعظم الأوفياء مع هذه الفئة المباركة فصعد المنبر وعليه عصابة وكانت آخر مرة ارتقى فيها النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فأثنى على الأنصار وأوصى بهم وقال: (اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)، ودعا لهم صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (إنهم سيقلون كما يقل الملح في الطعام)، وأثنى عليهم خيراً صلوات الله وسلامه عليه، وأخبر أن الموعد الحوض، ونزل عن المنبر وكانت آخر مرة ارتقى فيها المنبر صلوات الله وسلامه عليه كالموصي لهم رضي الله عنهم وأرضاهم، والمثبت لقلوبهم لما سيكون بعده صلوات الله وسلامه عليه.

هذا مجمل لبعض الأحداث التاريخية والإيمانية التي مر بها أولئك الرهط الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا الحديث الذي مر كله حديث إجمالي لا حديث أفراد، وحديث الأفراد: أن هؤلاء القوم نصروا الله ورسوله بلسانهم وسنانهم -يعني سيوفهم- فممن نصر رسول الله بلسانه: حسان بن ثابت: وهو خزرجي من بني النجار، وقد عاش مئة وعشرين عاماً، ستون سنة في الجاهلية، وستون في الإسلام، حتى عمي بصره رضي الله عنه وأرضاه، وهو القائل: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء يبارين الأسنة مصغيات على أكتافها الأسل الظماء فإما تعرضوا عنا اعتمرنا فكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس له كفاء.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (اهجهم وروح القدس معك)، ولما أراد أن يهجو حسان أبا سفيان بن الحارث، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إنه أحد الخمسة الذين يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم في هيئتهم، فلما أراد أن يهجوه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تهجوه وأنا منه؟)، قال: لأستلك منهم أي: من بني عبد مناف كما تستل الشعرة من العجين، قال: (اذهب إلى أبي بكر فإنه أعلم بأنساب قريش)، فأخذ أبو بكر يعلم حسان أنساب قريش حتى لا يقع حسان في نسب يدل على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان يهجو بني عبد الدار، ويتجنب بني عبد مناف جملة: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء إلى أن قال: وعبد الدار سادتها الإماء ومنهم كذلك: سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وهذا سعد اهتز عرش الرحمن عند موته؛ فرحاً بصعود روحه رضي الله عنه وأرضاه، ورغم كل المجد الذي تسمعه عن سعد فإنه مات وعمره ستة وثلاثون سنةً بنى فيها كل هذا المجد، وكان رجلاً سيداً في الأوس، كما كان سعد بن عبادة سيداً في الخزرج، ولما تمت بيعة العقبة سمعت قريش منادياً ينادي: فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكة لا يخشى خلاف المخالفِ يقصد بالسعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وأهديت له صلى الله عليه وسلم قطيفة من حرير، فأخذ الصحابة يتعجبون منها فقال عليه الصلاة والسلام -وهذا بعد موت سعد - قال عليه الصلاة والسلام: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا)، فهو أحد الصحابة الكبار المشهود لهم بالفضل، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم دفنه وسابق إليه خوفاً من أن تسابقه الملائكة أو تسبقه إلى دفن سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه.

ومن سادتهم كذلك: أبي بن كعب، وهو أحد الأربعة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ القرآن منهم، وبقية الأربعة هم: عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب هو الرابع، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة: لم يكن الذين كفروا)، فالله جل جلاله يأمر نبيه عليه السلام أن يقرأ سورة البينة على هذا الصحابي الجليل سيد القراء: أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه.

ومنهم رضي الله عنهم وأرضاهم: معاذ بن جبل، وقد مات بعد الثلاثين بقليل، وأظنه في الأربع والثلاثين، وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام، قال عليه الصلاة والسلام: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل)، وكان رجلاً سخياً أهلكه الدين حتى اشتكاه دائنوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحجر عليه؛ لأن الحدود الشرعية ليس لها علاقة بفضل الرجل وبكرمه، ثم رق له وبعثه إلى اليمن معلماً، وفي نفس الوقت جابياً للزكاة حتى يكون له منها نصيب، قال تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:٦٠]، وهذا من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو في اليمن فقدم المدينة ودخل المسجد وبكى تذكراً لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، وقد مات رضي الله عنه في طاعون عمواس في الشام.

ومنهم: سعد بن عبادة سيد الخزرج، الذي مرت معنا قصته قبل قليل، فقد سكن الشام في أواخر حياته ومات فيها رضي الله عنه وأرضاه.

ومنهم: أبو دجانة، وقد مرت معنا مواقفه الشهيرة.

أما بيوتهم: فقد ذكرنا بني النجار وتحدثنا عنهم، أما بنو عبد الأشهل: فهم القوم الذين منهم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب ذات يوم في بني عبد الأشهل، فلما سلم انصرف من صلاته، فقاموا يتنفلون ويصلون ركعتي المغرب، وكل منهم يأخذ سارية أو مكاناً في المسجد يصلي فيه، فنظر صلى الله عليه وسلم إليهم وقال: (هذه صلاة البيوت)، أي: ركعتا المغرب الأفضل أن تؤدى في البيت، قال: (هذه صلاة البيوت يا بني عبد الأشهل!)، لكن لا يعني ذلك: أنه لا يجوز أداؤها في المسجد، لكن إذا أستطاع المرء أن يؤديها في البيت فهو أفضل وأكثر اتباعاً وإذعاناً للسنة، هذا مجمل ما يمكن أن يقال عن الأنصار، ولعل في الإجابة عن أسئلتكم ما يوضح كثيراً مما تركناه.

عموماً نقول: إن المقصود من مثل هذه الدروس أمور عدة، لكن أعظمها: الحرص على اتباعهم رضي الله عنهم وأرضاهم كما قال الله في مدح تابعيهم: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:١٠٠]، والمعنى الإجمالي للتابعين بإحسان أي: اتبعوهم بإخلاص، واتبعوهم بأن صاروا على نهج بين وطريق واضح في اتباع سنة الله جل وعلا، واتباع سنة رسوله في إتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.