أيها المؤمنون! لقد تجلى في هذين الحدثين العظيمين إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فالصبر مطية وأي مطية أعطاها الله جل وعلا أنبياءه ورسله، ولهذا قال الله مخاطباً خير خلقه، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف:٣٥].
ولما سجد نبيكم صلى الله عليه وسلم أيام البعثة الأولى عند الكعبة انتدبت قريش رجلا ًمنها يضع على ظهره الشريف -وهو أكرم الخلق على الله- سلى الجزور، فمكث سلى الجزور على ظهره الشريف ما شاء الله له أن يمكث، وعبد الله بن مسعود مسلم حاضر لا يستطيع أن ينتصر لنبيه، فبعث رجل رسولاً إلى فاطمة ابنته، فجاءت فاطمة وحملت سلى الجزور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظر صلى الله عليه وسلم إلى أولئك الذين ائتمروا عليه وتهكموا به، فدعا عليهم وهو عند الله نبي وأي نبي، وكريم وأي كريم.
قال ابن مسعود وقد شهد الواقعة الأولى: فلقد رأيت من دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر في القليب -قليب بدر- فانظر أيها المؤمن ما هي إلا سنوات ثم انتقم رب الأرض والسماوات لخير من ختم الله به الرسل، وأتم الله به النبوات.
وفي أيام البعثة الأولى هم صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة فمنعه عثمان بن أبي طلحة سادن الكعبة يومئذ من دخول البيت، فقال صلى الله عليه وسلم:(يا عثمان! كيف بك إذا كان المفتاح بيدي أضعه بيد من أشاء، فقال عثمان: لقد ذلت قريش يومئذ وهانت)، ثم مضت السنون ومرت الأعوام والله جل وعلا يحفظ نبيه وينصره ويكلأه، حتى دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح عزيزاً وما كان ذليلاً قط، وكان منيعاً محفوظاً بحفظ الله جل وعلا له، فكبر في نواحيها، وصلى بالبيت ركعتين، ولما هم بالخروج أنزل الله جل وعلا عليه وهو عليه السلام عند عضدتي باب الكعبة:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء:٥٨]، فقال صلى الله عليه وسلم بعدما خرج:(أين عثمان بن طلحة؟ قال: أنا هنا يا رسول الله! فأعطاه النبي مفتاح الكعبة كما أخبر به في الأول، وقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم)، فهي إلى اليوم فيهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد صدق الله وهو أصدق القائلين:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافات:١٧١ - ١٧٣]، وصدق الله وهو أصدق القائلين:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}[يوسف:١١٠].
أبعد هذا يتوكل على غير الله؟! أبعد هذا يلجأ إلى غير الله؟! أبعد هذا يؤمل أحد أن ينصره أحد غير الله؟! قال العز بن عبد السلام رحمة الله تعالى عليه: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله، فكيف يوصلوا إلى الله بغير الله؟! اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته.