[حياة سيبويه العلمية ونهايتها بقهر الرجال]
وكنت كلما قرأت أو سمعت هذين الحديثين، تذكرت إمام النحاة سيبويه رحمه الله تعالى.
وذلك أن سيبويه -عليه من الله الرحمة والغفران- فارسي الأصل، نشأ في البصرة، وكان أول حياته يطلب الحديث، فجلس إلى شيخ يقال له حماد بن سلمة، وأخذ يقرأ عليه، فمر على حديث -بصرف النظر عن درجة صحته- فقرأه: (إنه ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لرددت عليه ليس أبو الدرداء)، فأجرى سيبويه ما بعد (ليس) على عمل ليس في الاسم وهو رفع ما بعدها، فقال له شيخه: أخطأت يا سيبويه إنما هو استثناء، كان ينبغي أن تقول: ليس أبا الدرداء.
فأطبق الكتاب، وقال: لأطلبن علماً لا يلحنني معه أحد، فلزم شيوخ البادية وعكف عند الخليل بن أحمد الفراهيدي يطلب منه العلم، وأخذ عن غيره من الأقران كـ يونس، وعيسى بن عمر وغيرهما من أئمة نحاة البصرة آنذاك، حتى علا شأنه وهو صغير، وبز أقرانه، وتفوق على كثير من طلاب العلم، حتى أصبح وهو في العقد الثالث من عمره إمام البصرة لا ينازعه في إمامة النحو أحد.
وكان في تلك الفترة قد ألف كتابه (الكتاب) ولم يخرجه للناس، وكتابه المسمى والموصوف بـ (الكتاب) في النحو، ألفه في أوائل القرن الثاني تقريباً، ومنذ عصره إلى اليوم لم يؤلف أحد في النحو كتاباً أكمل ولا أعظم من كتاب سيبويه، مما يبين بجلاء أن للرجل قدم صدق واضحة وعلو كعب في علم النحو، وسيأتي الحديث عن الكتاب بعد ذلك.
ثم سمع ببغداد وكانت يومئذٍ عاصمة الخلافة، وكان أقرانه من الكوفيين كـ الكسائي وغيره يذهبون إلى بغداد، فينالون حبوة الأمراء وأعطياتهم وشرف المنازل، فأراد أن يسعى في مرحلة جديدة من حياته فانتقل من البصرة وتوجه إلى بغداد ونزل عند يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد، وأراد أن يكون مرحلة جديدة من حياته، فلما دخل على يحيى أقام يحيى مناظرة بينه وبين الكسائي زعيم نحاة الكوفة.
وكانت اللعبة السياسية آنذاك بين البصرة والكوفة في أوجه؛ لأن البصرة كانت في الماضي حليفة لبني أمية، فلما تغير الأمر السياسي أضحت قلوب بني العباس مع أهل الكوفة أكثر منها مع أهل البصرة! وأقيمت المناظرة، وكانت في حال الاسم الواقع بعد (إذا) الفجائية، فكان سيبويه يرى أن حقه الرفع حالة واحدة لا تقبل الوجهين، وكان الكسائي يرى جواز الوجهين: الرفع والنصب.
فقال لهما يحيى بن جعفر: اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي: هذه وجوه الأعراب ببابك قادمة من كل صقع فاجعلها تحكم بيننا.
وكانت الأعراب يومئذٍ لم تخالطها العجمة، فيحكمون بين النحاة لأنهم على السليقة، وكان الكسائي صاحب حظوة عند هارون الرشيد، فأراد الأعراب أن يمالئوا ويجاملوا الكسائي على سيبويه رغبة في المال والجاه والأعطيات، فلما قال الكسائي ما عنده وقال سيبويه ما عنده وهو يعلم يقيناً أنه على الحق، قالت الأعراب ممن حضروا واحتكموا إليهم: إن الحق مع الكسائي! فلما قيلت هذه الكلمة انخفض خاطره وكسر ظهره وما جاء من أجله، فزاده الكسائي نكالاً فقال لـ يحيى: أيها الأمير! أصلحك الله، إن الرجل قدم يرجو أعطياتك فهلا جبرته، فأعطى يحيى سيبويه بعضاً من المال يريد أن يجبر به كسره، فخرج رحمه الله من عنده وقد أصابه من الغم والهم وقهر الرجال ما أصابه، يتوارى من الناس من سوء ما لحق به حتى إنه لم يستطع أن يدخل البصرة بعدئذ، رغم أنه رحمه الله كان إذا خرج لصلاة الفجر سحراً وهو في الثانية والثلاثين من عمره يجد طلاب العلم يزدحمون على بابه يسألونه وهو يجيب كأنه يغرف من بحر.
فذهب هذا المجد كله وهو قد جاء ليؤثل مجداً جديداً وعملاً خالداً، فذهب إلى قرية من قرى فارس، ومر في طريقه على تلميذه الأخفش فبثه شكواه، وقال له بنجواه، وأخبره بالقصة ولم يستطع بدنه أن يتحمل ما أصابه من قهر وهم، فدب به المرض ولم يلبث إلا يسيراً حتى توفي، وعندما احتضر وشعر بدنو الأجل ذكر بيتين من الشعر تناسب حاله وكونه قد ذهب يريد أمراً فرجع بآخر، فقال رحمه الله: يؤمل دنيا لتبقى له فوافى المنية دون الأجل وبات يروّي أصول النخيل فعاش النخيل ومات الرجل ثم أسلم نفسه وفاضت روحه إلى بارئها، فرحمه الله!