[مقابلة إخوة يوسف له بعد أن صار عزيز مصر]
وصل إخوة يوسف على يوسف فدخلوا عليه فعرفهم كما قال الله: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:٥٨]، فأخذ يلاطفهم بالقول حيناً، وتارة يعمد إلى الترهيب, وتارة يعمد إلى الترغيب, يقول مرغباً: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:٥٩].
ويقول مرهباً: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:٦٠].
لما رجعوا بعد أن رد عليهم المتاع الذي جاءوا به دخلوا على أبيهم أخبروه الخبر وأن العزيز يطلب أن يرى أخاهم، تذكر يعقوب عليه الصلاة والسلام تفريطهم في يوسف من قبل: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:٦٤].
وبعد إلحاح أعطاهم بنيامين بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق إلا أن يحاط بكم، وقد قالها بعد أن أدركته عاطفة الأبوة, وجعلها استثناء من باب الرحمة، فخرج الإخوة ومعهم أخوهم بنيامين، وقد أوصاهم أبوهم خوفاً عليهم من العين: {يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:٦٧] قال الله: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٦٨].
دخلوا المدينة وقد ألجموا أفواه الجمال التي تحملهم, حتى يعلم الناس أنهم أبناء نبي، وأنهم لا يأذنون لجمالهم أن تأكل من هنا وهناك، دخلوا على يوسف, فآوى إليه أخاه وأخبره الخبر في قصة ظاهرة مشهورة, ثم كاد لهم كيداً بأمر من الله، فأمر غلمانه أن يضعوا صواع الملك في رحل أخيهم الأصغر.
فلما فارقوا أرض مصر بعد أن أخذوا أمتعتهم وعادوا، إذا بمؤذن ينادي: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:٧٠] غيروا اللفظ, ولم يقبلوا السرقة, ولم يقولوا: ما الذي سُرِق؟ فإنهم لا يعترفون بوجود السرقة أصلاً, وإنما قالوا: {مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف:٧١] أي: ما الذي ضاع منكم.
فاتفق المؤذن معهم على أن من وجد في رحله سيكون عرضة للأسر, فلما وافقوا قدموا بين يدي يوسف وأخذ ينظر في أمتعتهم ورحالهم واحداً بعد الآخر, فكلما نظر في متاع أحدهم قال: أستغفر الله مما رميتكم به, حتى وصل إلى بنيامين قال: أما هذا فما أظنه أخذ شيئاً, فألحوا عليه, قال الله جل وعلا: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف:٧٦].
فأخذ يوسف بنيامين عنده، وأخذ الإخوة يستعطفونه، لكن يوسف بقي مصرّاً على رأيه, فلما أصابهم اليأس من إقناعه {خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف:٨٠] أي: اجتمعوا فيما بينهم يتشاورون في القضية, أما الأخ الأكبر فاستحيا أن يرجع إلى أبيه فيقول له: أضعت بنيامين كما أضعت يوسف من قبل, قال كبيرهم كما قال الله جل وعلا: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:٨٠ - ٨١].
رجع الإخوة وبقي الأخ الأكبر, فلما رجعوا إلى أبيهم أخبروه بالقصة, وأي مصاب جديد ويذكر بقرينه, ويذكر بالمصاب القديم, والعرب تقول: إن الأسى يبعث الأسى, فلما كان بنيامين هو الباقي ليعقوب يشم فيه رائحة أخيه, جاء هؤلاء ليقولوا: إن بنيامين فُقِد كما فُقِد يوسف من قبل، وإن الأخ الأكبر لن يعود حتى تأذن له.
كان يعقوب مصابه في يوسف فقط فأصبح مصابه في يوسف وبنيامين وروئين الذي هو الأخ الكبير, لكن النفوس التي تعرف الله لا تعرف اليأس أبداً, من يعرف الله لا يعرف اليأس ولا القنوط أبداً، فقال كما أخبر الله جل وعلا عنه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:٨٣ - ٨٤].
وبلغ ذروة الحزن وذروة الحزن أن ابيضت عيناه, قال الله جل وعلا: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:٨٤].
إن الأبواب إذا أوصدت هذا أول الدلائل على أنها ستفتح, وكلما أغلق الأمر ولم يبق مخرج دل على أن الفرج القريب.
وراء مضيق الخوف متسع الأمر وأول مفروح به غاية الحزن فلا تيأسنَّ فالله ملك يوسف خزائنه بعد الخلاص من الشرك لما قال يعقوب هذا, أخذ الأبناء يعنفونه: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف:٨٥] أي: لا تزال تذكر يوسف {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:٨٥ - ٨٦].
وقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:٨٦] سيأتي بيانها بعد قليل, ثم أخذ بالأسباب قال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧].
إن من أعظم ما يلقاه المؤمن: حسن الظن بالله جل وعلا, وفي الحديث: (إن الله جل وعلا عند حسن ظن عبده به) , فهذا النبي المكلوم فقد ثلاثة من أبنائه خلال أربعين عاماً, فكل شيء تغير فيه: صحته واحدودب ظهره, وعميت عيناه, لكن الذي لم يتغير فيه هو حسن ظنه برب العالمين جل جلاله, ومتى أحسن العبد ظنه بربه فرج الله جل وعلا عنه.
قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي مسلم الخولاني رحمه الله: إن أبا مسلم هذا -وكان من الصالحين العباد- اشتكت إليه زوجته الفقر الذي هو فيه, وأنه لا دقيق تصنع منه خبزاً, قال لها: هل في البيت مال؟ قالت: دينار واحد, قال: أعطني إياه أشتري لكم به دقيقاً, وخرج إلى السوق ليشتري بهذا الدينار دقيقاً، فلما وصل إلى السوق قبل أن يشتري الدقيق جاءه رجل سائل عليه المسكنة ظاهرة بارزة, فأعطى أبو مسلم السائل الدينار, ولم يبق في يديه شيء إلا الكيس الذي خرج به من بيته ليشتري الدقيق ويضعه فيه, فعمد إلى صاحب خشب ونجار, فأخذ نجارة الخشب وملأ بها الكيس وحمله على ظهره وعاد إلى بيته, فلما عاد إلى بيته وضعه بين يدي امرأته وتنحى في غرفة أخرى ينتظر قدر الله, ما هي إلا برهة وإذا بالمرأة تأتي له بالخبز, فقال لها: من أين لك الدقيق؟! قالت: من الكيس الذي أتيت به, فسكت وأخذ يأكل وهو يبكي.
فالله جل وعلا قادر على كل شيء, ولا ندعو بهذا إلى أن يقعد الإنسان في بيته، أو يتبع طرائق غير محمودة، لكننا نقول: إن حسن الظن بالله جل وعلا من أعظم العبادات وأجل الطاعات، وبه ساد الأنبياء والمرسلون وأتباعهم من أولياء الله المتقين.
ولما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام هذا خرج بنوه, ودخلوا على يوسف ومعهم بضاعة مزجاة أي: مدفوعة, وقيل: مخلوطة، لا تساوي شيئاً {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:٨٨].
هنا كشف يوسف عن القناع: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:٨٩] ولما سقط في أيديهم: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:٩٠].
فقال يوسف بيت القصيد من القصة كلها: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:٩٠].
فما عند الناس من الدنيا ينال بأي طريقة، أو بحسب الشخص المقابل، فلك أن تخدعه أو تصدق معه فتعطيه أو تمنعه، أما ما عند الله لا ينال إلا بطريقين وهما: التقوى والصبر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤].
ويوسف يقول: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:٩٠ - ٩١]-وقد كان رحيماً باراً، والنفوس العظيمة تعفو عند المقدرة- {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:٩٢] ثم خلع قميصه, فقد كان هذا القميص في السابق سبب الحزن ليعقوب, فأراد الله أن يكون القميص سبب السعادة والفلاح والرحمة والنجاة ليعقوب، قال يوسف لإخوته: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف:٩٣].
فخرجت العير والقافلة من أرض مصر, فما إن خرجت من أرض مصر إلا ويعقوب وهو في أرض كنعان يجد ريح يوسف, قال لمن حوله من نبيه: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُ