للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا يكون دخول الجنة إلا بعد الموت]

أيها المؤمنون! لقد مضت سنة الله جل وعلا في خلقه، وكلمته في عباده: أن أهل الجنة لن يدخلوها زمنياً إلا بعد حادثتين: الأولى: موت النفوس وفراقها للأجساد.

والثانية: انتهاء الدنيا وقيام الساعة والبعث والنشور، وبعد هذين زمناً يكون دخول أولياء الله المتقين وعباد الله الصالحين لجنات النعيم.

فأما الأولى: فإن الله جل وعلا قال في كتابه وقوله الحق: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥]، وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:٣٤].

وكتب الله جل وعلا على هذه الأرواح أن تسكن الأجساد يوم يأتي الملك والنطفة مستقرة في رحم الأم فينفخ فيها، ثم تمكث ما شاء الله لها حتى يصبح العبد خلقاً آخر كما أخبر الله رب العالمين، ثم إذا كتب الله ساعة الفراق حضرت الملائكة كما حضرت في الأول لتنفخ في الرحم تحضر لتأخذ الأمانة التي أودعتها في ذلك الجسد، فتكون ساعة الوفاة.

وما أرَّقَ الصالحين، وأقض مضاجع المتقين إلا ساعة الإقبال على الله جل وعلا، فإن العبرة بالخواتيم، ويثبت الله من شاء على صراطه، ويبقي الله تبارك وتعالى من صدقت نيتهم على طريقه، قال أهل العلم رحمهم الله: من صدق فراره إلى الله صدق قراره مع الله، فمن صدقت توبته وإنابته وأوبته إلى ربه صدق قراره وسيره وهديه على صراط الله حتى يلقى الله تبارك وتعالى.

فهذا الهم أقض مضاجع المتقين من قبل، وأرق الصالحين من عباد الله؛ ولذلك سعوا أعظم ما سعوا في أن يختم الله جل وعلا لهم بخير.

ولما كان النوم أخو الموت كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم مضت السنة الفعلية والقولية أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أضطجع وأراد أن ينام وضع يده تحت خده قائلاً: (باسمك اللهم أحيا وأموت)؛ رجاء أنه إذا قبض فإنه يقبض على اسم الله تبارك وتعالى.

وفي الخبر الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم جاءته فاطمة ابنته وقد أتعبها كدها في بيتها ولم يكن لها خادم، فجاءت إلى بيته تبحث عنه وتسأله خادماً لما علمت أن سبياً أتاه، فلم تجده، فأخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ثم أخبرت أم سلمة، فلما قدم صلى الله عليه وسلم وأخبرتاه زوجتاه بالأمر قدم عليه الصلاة والسلام على علي وفاطمة كما عند البخاري وغيره وهما على فراشهما، فلما همّا بأن يقوما إليه أشار إليهما أن ابقيا على مكانكما؛ حفظاً لعوراتهما، ثم دنى منهما صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس بالشرع، فلما قصا عليه ما طلباه قال عليه الصلاة والسلام: (إلا أدلكما على خير من ذلك؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين فذلك تمام المائة).

فقد طلبا شيئاً من متاع الدنيا فدلهما عليه الصلاة والسلام على ما ينفعهما في آخرتهما، حتى إذا قبض العبد وقد ذكر هذه الأذكار قبض على عمل صالح، ومن أجل ذلك خلصت نيات المؤمنين وصدقت مع ربهم؛ رجاء أن يقبضهم الله على خاتمة حسنة.

ومما يعين عليها: الإكثار من الأعمال الصالحات، فقلما أكثر عبد من عمل صالح إلا وتوفاه الله جل وعلا على ذلك العمل.

وقبل سنوات غير بعيدة كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من العامة يمني الجنسية لا يقرأ، فإذا دخل المسجد النبوي ورأى رجلاً خالياً من شغل أعطاه قرآناً في يده وقال له: أقرأ علي من كلام الله، فيمضي الرجل يقرأ وهذا العبد الصالح الأمي يستمع، فقضى أكثر عمره على هذا النحو، فلما أراد الله جل وعلا أن يقبض روحه -وربما كان ذلك العبد صادقاً مع مولاه والحكم على الظواهر- دخل الحرم ذات يوم فقدم المصحف لرجل جالس في الحرم فلما أخذ ذلك القارئ يقرأ وهذا العبد الصالح يستمع إليه مرا على آية سجدة، فسجد الاثنان فرفع الأول منهما وأما ذلك العبد الصالح فقبض الله روحه وهو ساجد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لا يهلك على الله إلا هالك، فالصدق مع الله عز وجل أعظم ما يرث فيه العبد الخاتمة الحسنة، وحسن الوفادة والإقبال على رب العالمين جل جلاله.

ومن ينشد الخاتمة الحسنة ينبغي أن يكون سليم الصدر للمؤمنين، فليس في قلبه بغض ولا حقد ولا حسد ولا شحناء لأحد من المؤمنين؛ فإن كثرة الغل والحسد والبغضاء والشحناء لعباد الله أعظم ما يورث به سوء الخاتمة والعياذ بالله.

أورد ابن خلكان رحمه الله في (وفيات الأعيان)، في ترجمة يوسف بن أيوب الهمداني أنه كان عبداً صالحاً محبوباً من الناس، فبينما هو ذات يوم في درسه إذا قام رجل من الصالحين ظاهراً يقال له: ابن السقا، وكان يحفظ القرآن وعنده شيء من الفقه، فقام ذلك الرجل يسأله مسائل يريد بها أن يسيء الأمر في حلقته، ويشغب عليه وجموع الناس حوله.

لما أكثر عليه قال يوسف بن أيوب لـ ابن السقا: اجلس فوالله إني لأشم من كلامك رائحة الكفر، وأظنك ستموت على غير ملة الإسلام، فمضت أيام قدم فيه وفد من ملك الروم إلى الخليفة، فلما خرج عائداً إلى القسطنطينية تبعه ابن السقا وذهب معه، واستقر به الأمر في تلك المدينة، فما لبث فيها أيام حتى تنصر والعياذ بالله وأعجبه ما عليه النصارى من دين، وخرج من ملة الإسلام فبقي فيها، وكان يحفظ القرآن، ثم قُدِّر لرجل من أهل بغداد أن يذهب إلى تلك البلدة لتجارة له فوجده مريضاً على دكة وبيده مروحة يذب بها الذباب عن نفسه، فقال له: يا ابن السقا! إني أعهد أنك تحفظ القرآن فهل بقي من القرآن في صدرك شيء؟ قال: لا، ولا آية إلا آية واحدة: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:٢]، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.

وعمر رضي الله تعالى عنه قتل في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخنجر ذي نصلين على يد أبي لؤلؤة، فلما حمل رضي الله عنه وأرضاه وهو هو في علمه وجلالة قدره وصحبته وفضله وضع على الأرض، وشعر بدنو الأجل، فدخل الناس من الصحابة يثنون عليه، وكان فمن دخل عليه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فلما رآه أخذ ابن عباس يثني على عمر ويذكره بنصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله تعالى عنه، وكان يعجبه كلام ابن عباس: أعد علي ما قلت، فلما أعادها قال: وإنني مع الذي تقول لو كان لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع.

كل ذلك داخل في سياق ما ذكرناه من أنه ما أهم الصالحين شيء أكثر من حسن الإقبال على الله جل وعلا، وهذا على حسب حال كل إنسان بخاصة نفسه.