[وقفة مع آية: (وما أنزل على الملكين ببابل)]
الآية الأولى: قول الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٠١ - ١٠٢].
أيها المؤمنون! هذه الآية بمجملها اخترناها عمداً لكثرة الأسئلة التي ترد إلينا عن الإشكال في قوله جل وعلا: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} [البقرة:١٠٢].
وذلك أن (ما) هنا تحتمل أن تكون نافية، وتحتمل حسب اللغة أن تكون موصولة، لكننا سنبدأ في تفسير الآيات من أولها.
الآيات جاءت في سورة البقرة في ذكر اليهود، والله هنا يقول: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:١٠١]، هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما معهم هي التوراة، وفي التوراة وصف لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، ذلك أن الله جل وعلا وصف محمداً وأصحابه في التوراة والإنجيل ثم ابتعثه من أعز قبيل في أكرم جيل وأمثل رعيل، صلوات الله وسلامه عليه.
ولما قيل لـ عبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم أتعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم هو بعينه ووصفه ونفسه؟ قال: نعم ولا أشك في ذلك، أعرفه أكثر مما أعرف ابني، ثم بين رضي الله عنه وأرضاه قال: ذلك أن أمين السماء نزل على موسى وأعطاه التوراة فأخبره بوصف نبينا صلى الله عليه وسلم، أما ابني في صلبي فلا أدري ما كان من شأن أمه كذبت علي أو صدقت! غاية الأمر أن يعلم أن الله هنا يقول: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:١٠١]، وهذا أسلوب القرآن العظيم في التحرز من تعميم الأحكام قال الله جل وعلا: {فَرِيقٌ} [البقرة:١٠١]، ولم يقل (أمة اليهود بأكملها) ذلك أن كل أمة فيها الأخيار وفيها دون ذلك، قال الله جل وعلا في آية محكمة: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:١١].
وهذا قول الله جل وعلا {فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:١٠١] يشهد له الواقع، فالإسلام دين الفطرة، وما زال الناس من يهود، ومجوس، ونصارى، ووثنيون وغير ذلك يدخلون في الإسلام تباعاً حتى إن آخر يهودي أسلم قبل أيام واسمه، ميخائيل هاجر من روسيا إلى إسرائيل رغبة بأن يستوطن أرض الميعاد، وسكن في مستوطنة يهودية يقال لها: كربات أو كريات، فمكث فيها ثم هداه الله جل وعلا إلى الإسلام، فغير اسمه من ميخائيل إلى محمد المهدي، وانتقل يسكن في قطاع غزة مع سائر المسلمين ممن يسكن في تلك البلاد المباركة.
هذا كله يدل على التحرز القرآني في كلام الرب جل وعلا، {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:١٠١ - ١٠٢]، عدى الله الفعل (تتلو) هنا بحرف الجر (على) وهذا يحتمل أن المقصود من الآية: أن اليهود تركوا الأمر البين الواضح الذي أنزله الله جل وعلا عليهم، ولجئوا إلى الكذب.
والآية تفهم من سياقها التاريخي، ذلك أن سليمان عليه الصلاة والسلام أعطاه الله جل وعلا أموراً عظاماً، قال الله جل وعلا: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:٣٦ - ٣٩].
كان سليمان قبل أن يموت قد دفن السحر الذي جاءت به الشياطين، فلما مات أخرجته الشياطين وأخرجه اليهود ونسبوا إلى سليمان عليه السلام السحر، وإنما كان يصنعه سليمان ولم يكن معجزة من الله بزعمهم، ولهذا قال الله جل وعلا: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:١٠٢]، رغم أن اليهود لم ينسبوا إلى سليمان الكفر وإنما قال الله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:١٠٢]؛ لأنهم نسبوا إلى سليمان السحر والسحر هو الكفر أو قرين الكفر، أو بتعبير أوضح: السحر من الكفر، ولذلك قال الله جل وعلا: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:١٠٢].
إلى هنا لا يوجد خلاف كبير بين العلماء في معنى الآية، لكن قال الله بعدها: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:١٠٢].
قال فريق من العلماء: إن (ما) هنا نافية، والآية عندهم فيها تقديم وتأخير، ومعنى الآية: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:١٠٢]، أن الله نفى الكفر عن سليمان، ويقولون: إن الأصل في الآية: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} [البقرة:١٠٢]، لهاروت وماروت أي: أن الله ينفي أن يكون قد أنزل على الملكين أي شيء من السحر.
هذا معنى الآية عند بعض العلماء، واختاره القرطبي رحمه الله، وأيده الشوكاني من المتأخرين.
لكن هذا القول لا يستقيم مع الآية أبداً؛ لأن الله قال بعدها: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} [البقرة:١٠٢]، فجاء الله بألف التثنية في (يقولا ومنهما ويتعلمان) مما يدل على أنها تعود على الملكين هاروت وماروت، فعلى هذا يبطل هذا القول في ظننا.
القول الثاني: اختاره الإمام ابن حزم رحمه الله، وحجته أن الواو للعطف، والعطف يقتضي المغايرة وفق قواعد اللغة، يقول رحمه الله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} [البقرة:١٠٢]، أي: الذي أنزل على الملكين غير السحر؛ لأن الواو عاطفة والعطف يقتضي المغايرة.
والذي دفع العلماء إلى هذا القول ما روي عن ابن عمر وغيره من الصحابة بأسانيد مرفوعة وموقوفة أن الله جل وعلا أنزل الملكين هاروت وماروت وابتلاهما بالكوكب المعروف: الزهرة، تمثلت لهم كأنها امرأة ففتن بها الملكان فردها الله وجعلها كوكباً، هذا الذي جعل بعض العلماء يحيد عن معنى الآية.
والحق إن شاء الله تعالى في تفسير الآية ما يلي: أما ما نقل من أن الله ابتلى الملكين بالزهرة فهذا باطل لا يمكن أن يثبت، ومجمل الأمر أن الله جل وعلا لا ملزم له ولا معقب لحكمه، فلما فشا في ذلك الزمان السحر حتى اختلط على الناس ما هو السحر وما هي معجزات الأنبياء أرسل الله جل وعلا هذين الملكين هاروت وماروت فتنة للناس يبينون للناس ما هو السحر، فإذا عرف الناس ما هو السحر عرفوا أن يفرقوا ما بين السحر ومعجزات الأنبياء، وهذا هو الذي يستقيم مع الآية، فمعنى (وما أنزل) أي: والذي أنزل على الملكين بابل هاروت وماروت.
والذي يدل على صحة هذا المعنى قول الله جل وعلا: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة:١٠٢]، أي: أن الملكين لا يعلمان أحداً، حتى يبينا ويقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:١٠٢]، وفي هذا دلالة على أن السحر كفر، {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} [البقرة:١٠٢]، أي: يتعلم شرار الناس من الملكين، {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:١٠٢]، وهذا أحد أنواع السحر المنصوص عليها في كلام ربنا جل وعلا، والنوع الثاني ذكره الله جل وعلا في سورة طه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:٦٦]، وهو سحر التخييل كما هو ظاهر في سورة طه.
نعود للآية، قال الله جل وعلا: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:١٠٢]، فقد يقع الضرر وقد لا يقع، وسواء وقع أو لم يقع فكل ذلك لا يمكن أن يتم ولا يكون إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى، {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٠٢]، وآخر الآية ظاهر بين في ذم السحر وأربابه وأتباعه ومن يقوم به ومن يؤذي الناس به، عافنا الله وإياكم من ذلك كله.