[العبر المأخوذة من وفاة الصديق رضي الله عنه]
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقاليد كل شيء بيديه، ورزق كل أحد عليه، ومصير كل عبد إليه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام وأفطر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه ما تلاحمت الغيوم وما تلألأت النجوم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فالله أكبر ما أعظمهم من أربعه مهديين وخلفاء راشدين، جعلهم الله جل وعلا قدوة وأسوة يوم تأسوا واهتدوا بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، حبهم دين وملة، وموالاتهم ونصرتهم قربة وطاعة، والترضي عليهم من أعظم الدعاء، فاللهم ارضَ عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
أيها المؤمنون! إن الحديث عن هؤلاء الراشدين أمر مشتهر معروف؛ لكن تكراره محبب إلى النفوس مألوف، وسيقتصر حديثنا عن أيامهم الأخيرة، وأخبار موتهم وما في ذلك من دلائل العظات وجلائل العبر، في قوم كانت حياتهم زاخرة بالمعاني العظيمة، فلا غرو ولا عجب أن يكون موتهم حافلاً بالأحداث الجليلة.
أما الصديق رضي الله عنه وأرضاه فلا خلاف بين المؤمنين أنه توفي رضي الله عنه في جمادي الآخرة، لكن اختلف في عله موته، والأظهر أنه اغتسل في يوم بارد فحَم فكان ذلك سبباً في وفاته، وقد جعل الله جل وعلا لموت كل أحد سبباً.
مات الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد أن استشار الناس في أمر الخلافة من بعده، وأخذ يبذل جهده وسعيه في الولاية من بعده، فأجمع أمره رضي الله عنه وأرضاه على تولية عمر بعد أن شاور كبار الصحابة، وكتب كتاباً بعد ذلك يجمع الناس فيه على عمر خوفاً على الأمة أن تتفرق بعده، وأن يتشتت شملها.
وفي ذلك دلائل جليلة، من أعظمها أن النصح للمسلمين وحب الخير لهم من أعظم دلالات سلامة القلوب، وأن المؤمن المتحلي بهذه الصفة قد وقر الإيمان في قلبه؛ لأن من كمال الإيمان كمال النصح لله ولرسوله لكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
جعلها الصديق رضي الله عنه في الفاروق من بعده؛ لأنه أدرك مع استشارته لخير الأصحاب أن عمر أقدر على سياسة الأمة من بعده، ولم يجعلها في أحد من بنيه أو أحد من (بني تيم) تلك القبيلة التي ينتسب إليها، فرضي الله عنه وأرضاه، وما أطيبه حياً وميتاً رضي الله عنه وأرضاه.
أيها المؤمنون! وقف الصديق يحتضر وعند رأسه ابنته عائشة، فلما رأت ما أصاب أباها أخذت تتمثل ببيت حاتم: لعمرك ما يغنيى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف الصديق وهو في سكرات الموت عن غطائه وأخذ يقول: يا بنيه! لا تقولي هذا، ولكن قولي كما قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩].
إن رباطة الجأش في مثل هذا الموضع لمن أعظم الدلائل على معرفه الله تبارك وتعالى، ومثل هذا لا يكون إلا إذا كان من قبل إيمان ويقين راسخ وأعمال صالحة تعين على الثبات في تلك المواطن، وإلا فسكرة الموت حق لابد منه لكل أحد؛ لكن المراد والمقصود من الحديث: أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه تمثل بالقرآن عند موته كما كان يعمل بالقرآن في أيام حياته، وما حياة الإنسان في آخرها إلا إجمال لما كان عليه قبل ذلك، فإذا منّ الله جل وعلا عليه بتوبة قبل الموت محت تلك التوبة برحمه الله ما كان من سالف الخطايا والعثرات.
أيها المؤمنون! أوصى الصديق رضي الله عنه أن تتولى غسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، فغسلته وهي يومئذ صائمة في يوم شاتٍ بارد، فلما فرغت من غسله خرجت إلى فقهاء المهاجرين تسألهم: هل عليها من غسل لأنها لامست ميتاً، فأفتوها رضي الله عنهم وأرضاهم أن لا غسل عليها.
فما أعظمها من زوجة وما أكرمها من مؤمنة! عرفت حق زوجها ولم تضيع وأبقت على حق ربها، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)! فالزوجة المؤمنة التقية من أعظم ما يعين على طاعة الله، ومن أعظم ما يساعد على القرب منه، كما كانت أسماء رضي الله عنها عوناً للصديق في حياته، وتولت غسله بوصيته بعد مماته.
دفن الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حجرة عائشة بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانا جارين في الغار وهما حيان، ثم أضحيا جارين في قبرهما وهما ميتان، فما أكرمهما عند الله جل وعلا من صاحبين وما أعظم منّة الله جل وعلا وفضله عليهما! تولى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الأمر بعده، وأخذ الأمناء الثقات من الصحابة وفتحوا بيت المال ليروا ما فيه، فلم يجدوا في بيت المال ديناراً ولا درهماً، كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقوم بالأمانة على وجهها، ويتقي الله جل وعلا في أموال المسلمين.
والمال أيها المؤمنون فتنه، يدفع صاحبه إلى الغش لتروج بضاعته، ويدفع صاحبه لأن يقبل الرشوة ويضاعف من دخله، ويدفع إلى السرقة والخيانة، ويدفع أحياناً إلى الكذب والمماطلة في سداد الدين، لكن من عرف ذلة الوقوف بين يدي الله جل وعلا؛ تحرر من مظالم الناس وخشي على نفسه أن يلقى الله وللناس عليه مطالب، ويومئذ يقتص للمظالم بالحسنات والسيئات، لا بالدينار والدرهم، ألا ترى أن الله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٦].
إن المرء في يوم القيامة لا يفر عمن لا يعرفهم؛ لأن من لا يعرفهم في الغالب لا حقوق لهم عليه فلا يطالبونه بشيء، فلا يخشى في عرصات يوم القيامة أن يقابلهم.
أما من كانوا حوله من إخوة وأم وأب وزوجة وأبناء وجيران وأصدقاء، فإنه يفر منهم خوفاً من أن يكون قد ظلمهم في الدنيا فيطالبونه بحقهم في الآخرة، ولا دينار ولا درهم يومئذٍ إنما هي الحسنات والسيئات، عافانا الله وإياكم من مظالم العباد كلها! عباد الله! هذا ما كان من شأن موت الصديق رضي الله عنه وأرضاه.