يقول الله جل وعلا:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:٨٥].
هذه الآية المشهور عند العلماء أنها مدنية، وقد جاء فيها أن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال:(كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمر عليه ملأ من يهود فقال بعضهم: سلوه، وقال بعضهم: لا تسألوه، ثم سألوه، فقالوا: يا أبا القاسم! ما الروح؟ فسكت صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود: فعلمت أنه يوحى إليه، ثم تلا:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:٨٥]) ولا ريب في أن أهل علم الحديث وأهل الفلسفة ومن تكلم في أمور عدة وتصدر لعظيم الفنون قد عجزوا عن مسألة الروح، وحق لهم أن يعجزوا، وأنى لهم أن يدركوا ذلك، والله يقول:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[الإسراء:٨٥]؟! وسنتكلم عنها إجمالاً وفق ما جاء في الكتاب والسنة، فالروح خلق من خلق الله، ينفخ في جسد ابن آدم وهو جنين في بطن أمه فتدب فيه الحياة، فهذا أول تعلق الروح بالجسد، ثم يكون تعلق آخر، وهو الثاني بعد الولادة، ثم تعلق ثالث حال حياة البرزخ، ثم تعلق رابع -وهو أكملها وأتمها- بعد البعث والنشور؛ إذ لا فراق بعده.
هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع هبطت على كره إليك وربما كرهت فراقك وهي ذات تفجع هذا قول فلسفي لـ ابن سينا يصح في أوله، وهو فاسد في آخره.
والذي يعنينا أن هذه أنواع التعلق الأربعة للروح بالجسم، ولكن الميت -وإن فارقت روحه جسده، وهذا حقيقة الموت- تتصل به اتصالاً لا نعلم كنهه، كما دلت السنة عليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(إنه يسمع قرع النعال)، وأخبر بأن الجنازة إذا كانت صالحة تقول لأصحابها الذين يحملونها: قدموني قدموني، وإذا كانت غير ذلك تقول يا ويلها، أين تذهبون بها؟! والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب قتلى بدر من أهل الإشراك، وقال لـ عمر:(والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، فهذا كله نوع من التعلق.
والميت -وإن كان ميتاً في قبره- ينتفع ببعض الأعمال التي يصنعها من يحبه له في الدنيا، وأعظمها الدعاء والحج والعمرة والصدقة، فهذه الأربع ثابتة، ومثلها الصدقة الجارية، وبقية الأمور فيها خلاف بين العلماء، وقد ذكروا أن رجلاً كان بينه وبين بيته والمسجد مقبرة، فإذا مر على الطريق يمر على المقبرة فيدعوا لهم قائلاً:(اللهم آنس وحشتهم، وارحم غربتهم) يصنع هذا كل ليلة، وفي ذات ليلة قُدر له أن ينساهم، فلما نام رأى في منامه رجالاً يلبسون ثياب بيضاً، فقال من أنتم يرحمكم الله؟ قالوا: نحنُ أصحاب هذه المقبرة التي بجوارك، كان الله يفرج عنا كل ليله بدعائك، فلما تركتنا هذه الليلة لم يأتنا من فرج الله شيء.
ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته زيارة القبور لغرضين شرعيين: الاتعاظ بحالهم، ونفعهم بالدعاء لهم لا بالانتفاع منهم، فإنهم لا يملكون لأنفسهم -فضلاً عن غيرهم- حولاً ولا طولاً ولا حياةً ولا بعثاً ولا نشوراً.