ومن البشارات أن يكتب الله جل وعلا لأحد من الناس قبولاً في الأرض ومحبةً من الناس وذكراً طيباً، قال صلى الله عليه وسلم:(تلك عاجل بشرى المؤمن)، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى شيء من السرائر يصنعها العبد.
ويحكى عن رجل من الصالحين يقال له: أبو عثمان النيسابوري أنه كان محبوباً عند الناس، ففي آخر حياته جاءه رجل فقال له: يا أبا عثمان! إنك لست إماماً ولا خطيباً، وإنني أجد الله قد وضع لك قبولاً في الأرض ومحبة، فأسألك بالله إلا أخبرتني بأرجى عمل عملته في الدين.
فوافق الرجل على أن يخبره شريطة ألا يحدث به الناس إلا بعد موته، فحدث به السامع بعد موته.
قال: يا هذا إنه جاءني رجل ذات يوم أظنه من أهل الصلاح، فقال لي: إني أريد أن أزوجك ابنتي.
فقبلت، فلما دخلت عليها إذا هي عوراء شوهاء عرجاء لا تحسن الكلام، وليس فيها من الجمال مثقال ذرة، فلما رأيتها رضيت بقضاء الله وقدره، فأقمت معها خمسة عشر عاماً، ففتنت بي وليس في قلبي نحوها من الهوى والميل مثقال ذرة، ولكنني كنت صابراً عليها أحسن إليها ولا أخبرها عما في قلبي إجلالاً لله تبارك وتعالى حتى توفاها الله جل وعلا.
وكان من تعلقها بي أنها تمنعني من أن أذهب إلى المسجد وإلى أقاربي وأصدقائي، وتريدني طيلة النهار أن أكون معها، فأطيعها في كثير من الأحيان، ولم أخبر بهذا أحداً، ولم أشك أمري إلى أحد غير الله، وفعلت ما فعلت إجلالاً لله، فإن كان الله كتب لي قبولاً فإني أرجو أن يكون بسريرتي هذه.
فمن أعظم ما تتقرب به إلى ربك أن يكون بينك وبين الله جل وعلا سريرة لا يعلمها أحد من الخلق تدخرها لنفسك بين يدي الله في يوم تكون أحوج ما تكون فيه إلى ما يكسو عورتك ويطفئ ظمأك، ويجعلك تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
فأعمال السرائر إذا أخلص العبد لله فيها النية، وكان له عمل، سواء أكان عملاً عبادياً محضاً بينه وبين الله، أم عملاً بينه وبين الخلق، كإحسان إلى والده، أو قيام على أرملة أو عطف على يتيم، أو غير ذلك مما شرع الله مما لا يمكن لي ولا لغيري أن يحصيه، إذا جعل ذلك سريرة يدخرها بينه وبين الله كان ذلك من أعظم البشارات، فتأتيه بشارته في الدنيا قبل الآخرة، ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم:(يا بلال! إنني ما دخلت الجنة إلا ووجدت دف نعليك أمامي)، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل الجنة في منامه، ورؤيا الأنبياء حق، فكلما دخلها يسمع صوت خشخشة نعلي بلال رضي الله عنه وأرضاه، فقال:(فأخبرني -يا بلال - بأرجى عمل عملته في الإسلام؟ فقال: يا رسول الله! إنني ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت لله ما شاء الله لي أن أصل).
فهذه سريرة أظهرها بلال لعارض، وعظمتها في المداومة عليها، وأحب العمل إلى الله جل وعلا أدومه، وكلما ابتلي الإنسان ببلاء ونجح في الابتلاء كان ذلك بشارة من الله له بالثبات يوم القيامة يوم تزل الأقدام، والله تعالى حكم عدل، فلا يمكن أن يهبك هبة وينزل منزلة حتى يؤهلك للوصول إليها، فإذا أراد الله لك منزلة أعطاك ما يعينك على الوصول إليها، إما بالفقد، وإما بالعطاء، فإما أن تفقد شيئاً فتصبر، وإما أن يوفقك الله لعمل صالح فتصنعه.