[وقفة مع حديث جابر في مقتل أبيه وزواجه من امرأة ثيب]
روى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (لما كانت ليلة أحد دعاني أبي فقال: يا بني لا أراني غداً إلا أول من يقتل في سبيل الله, فإذا أنا مت فأوصيك بديني فاقضه, وأوصيك بأخواتك, قال جابر: فلما أصبحنا كان أول من قتل, فدفنته مع رجل آخر فلم تطب نفسي أن أدفنه مع غيره, فحفرت عنه بعد ستة أشهر فوجدته كما هو هنية غير أذنه).
جابر رضي الله عنه صحابي ابن صحابي، وإذا أنت نظرت نظرة كلية للصحابة تجد أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: صحابة كبار في السن مثل: الصديق , العباس , عثمان , أما عمر فإنه أسلم وعمره ست وعشرون سنة, لكن الصديق كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سنتان, فهذا جيل يدخل فيهم عمر.
هناك جيل آخر وسط أدركوا النبي وهم في الرابعة عشرة والخامسة عشرة شهدوا بعض الغزوات مثل جابر، وعبد الله بن عمر.
هناك جيل صغير جداً ما أدرك شيئاً، أي: ما قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مثل: الحسن والحسين , عبد الله بن الزبير.
قوله: (دعاني أبي) أبوه هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري.
قوله: (لا أُراني) يعني لا أظن إلا أن أكون أول من يقتل غداً, وقع في قلبه واستقر في نفسه أنه غداً سيموت في المعركة، والآن الإنسان عندما يريد أن يسافر فيقع في قلبه أنه يموت في السفر يترك السفر، أما هذا فإنه أخذ يوصي ابنه جابراً قال: يا بني أول شيء أوصيك بالدين -كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يفرون كل الفرار من مظالم الخلق-.
وأنا والله لقد تأملت كثيراً ممن أدركتهم من الأخيار ما كتب الله لهم قبولاً ولا عرفت فيهم صلاحاً, إلا لأنهم متحررون من مظلمة الناس، فغير الله فيهم إلى الخير تغييراً كثيراً، والإنسان يتعلم مما يراه.
فرغم أنه يعلم في غالب ظنه أنه سيقتل في سبيل الله لكن يهتم بالدين، ثم قال: (وأوصيك بأخواتك)، قلنا: إن عبد الله ما ترك إلا جابراً من الذكور والباقون بنات.
يقول جابر: فلما أصبحنا -يعني جاءت المعركة- كان أبي أول من قتل رضي الله عنه وأرضاه, فدفنته في أحد.
وأحد جبل حصلت عنده المعركة يبعد حوالي ثلاثة أو أربعة كيلو عن الحرم.
وقد أراد الأنصار يحملوا القتلى إلى داخل المدينة, لكن منعهم الرسول، وقال: (ادفنوا القتلى في مصارعهم ووقف عليهم وقال: أنا شهيد على هؤلاء).
أي زعيم عاقل في بيته أو في مدرسته أو في شيء يلقى أشياء لا يمكن تنفيذها كلها، وليس من المعقول تركها بالكلية؛ لأن تركها بالكلية إهمال, وتنفيذها بالكلية إرهاق لمن حولك، لكن سدد وقارب، فكيف سدد النبي وقارب؟ هؤلاء الصحابة خرجوا مثخنين بالجراح يقول الله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:١٤٠] أصابهم قرح, صلى بهم نبيهم الظهر وهو قاعد, وصلوا خلفه فريضة وهم كلهم قعود, من شدة ما أصابهم من الجراح والأسى والقرح، فقال: (احفروا وأعمقوا).
يعني: أنتم لا تستطيعون أن تحفروا سبعين قبراً, وفي نفس الوقت لا أريد أن تحملوا الموتى إلى داخل المدينة, فما الحل الوسط؟ نحفر قبوراً معدودة أقل من سبعين, وندفن اثنين وثلاثة في قبر واحد، وهذه مناسبة لحال الصحابة وهم يحفرون؛ لأن الحفر مشقة.
لأنهم لو كانوا منتصرين لنشطوا، لكن كانوا يشعرون بمرارة الخطأ، فعدل النبي صلى الله عليه وسلم الوضع , فقال: (احفروا وأعمقوا).
هذا السبب الذي جعل جابراً يدفن أباه مع رجل أخر.
الرجل الآخر لم يذكر في روايات البخاري , لكن رواه مالك في الموطأ بسند منقطع، قال ابن عبد البر: ورد من عدة وجوه تشهد بالصحة أن الصحابي الآخر هو عمرو بن الجموح رضي الله عنه وأرضاه.
ويمر معك في السيرة أن النبي قال: (قدموا أكثرهم قرآناً) حتى يعلم فضيلة القرآن.
المهم أن جابر بن عبد الله دفن أباه مع عمرو بن الجموح.
يقول: (لم تطب نفسي) أي إنسان حر ينشد العلو والكمال، ودفن الرجل لوحده ليس مثل دفنه مع الناس, فحفر قبره بعد ستة أشهر، قال: فوجدته كأني دفنته هنية غير أذنه.
صحح الحافظ ابن حجر الرواية بهذه الطريقة - يعني شيء يسير تغير في أذنه -.
موضوع الشاهد منها: إكرام الله للشهداء.
ونحن نضم الأحاديث بعضها إلى بعض، وقد مر بنا حديث (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك).
إذا ضممت هذا الحديث لحديث (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) عرفت لماذا لم يتزوج جابر رضي الله عنه وأرضاه بكراً, أي: لأن عنده أخوات صغاراً.
فتزوج ثيباً فلم يضيع حقه ولا ضيع حق أخواته اللاتي وصى بهن والده.
وهذه القصة حصلت في سفر مع النبي عليه الصلاة والسلام, وكان جابر على جمل بطيء، وكان الرسول شفيقاً على أصحابه يتفقدهم, فأخذ النبي قضيباً ضرب به الجمل فأسرع الجمل، قال صلى الله عليه وسلم لـ جابر: (هل تبيعه؟) قال: نعم، فاشتراه بأربعة دنانير.
واشترط جابر ألا يسلم الجمل حتى يصل المدينة؛ لأنه لو أعطاه الجمل سيرجع مشياً وهذا سيؤخره أكثر! فوافق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم وصل جابر , وكأنه تأخر قليلاً في الطريق لبعض أمره فوصل النبي صلى الله عليه وسلم قبله، فجاء جابر ليسلم الجمل، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أصليت؟).
وهذا والله كتاب توحيد كامل، وأنا أقول للناس: من أراد أن يدرس التوحيد فليدرسه من القرآن والسنة فهو هنا يعلمه أن حق الله مقدم على حق كل أحد.
إذا جئت لتربي فأشعر من تخاطبه أنك لا تطالبه بحقك , وإنما تطالبه بحق الله.
إذا رأيت من أي أحد تعظيماً لله فعظمه لا لذاته, لكن لأنك رأيته يعظم الله.
قال له: (أصليت؟ قال: لا، قال: ادخل المسجد وصل ركعتين).
فدخل المسجد وصلى ركعتين ثم جاء فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه الجمل قائلا (خذ جملك).
ففهم جابر أن الرسول هون من الجمل.
يقول جابر: فو الله ما شيء أبغض إلي من الجمل! فأعطاه النبي الأربعة دنانير التي اتفقا عليها، ثم أمر بلالاً أن يزيده قيراطاً, فوضع جابر القيراط في جيبه وقال: هذه زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما فارقته حتى فقدها في موقعة الحرة التي حصل فيها ما حصل من قتل كثير من أهل المدينة.
نعود إلى حديث: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) فنقول: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جابراً عن سبب حرصه على السرعة؟ قال: إنني حديث عهد بعرس, أي قريب عهد بالزاوج.
فقال له: (هل تزوجت بكراً؟ قال: لا يا رسول الله، قال: هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك! قال: يا رسول الله إن لي أخوات, فما أحببت أن أدخل عليهن امرأة مثلهن, وإنما أردت ثيباً حتى ينتفعن بها).
من الفوائد التربوية قبل أن أختم في القضية: أن جابراً رضي الله تعالى عنه وأرضاه نصحه أبوه، فإذا أردت أن تنصح أحداً فهيئ لكلامك قبل أن تلقيه، فإن عبد الله بن عمرو بن حرام قال لابنه جابر: (يا بني! ولا أترك بعدي نفساً أعزك علي منك)، يبين أن لابنه مقام عظيماً عنده، ولا بد للوالد أن يظهر حفاوته وعنايته بابنه.
ثم قال مستدركاً: (غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم) - والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا عظيمي الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
التعامل مع ما يحدث من أحداث ينبغي أن ينطلق من ركائز.
فمثلاً للرد على ما حصل في الدنمارك وغيرها من قدح في النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن تكون على ثقة أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يصل إليه هؤلاء.
فقد ثبت في غزوة خيبر أنه صلى الله عليه وسلم سمت له شاة ثم قدمت له ليأكلها- سمتها له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم - فلما أكل منها صلى الله عليه وسلم ولاك منها يسيراً لفظها ثم قال: (إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم).
هذه امرأة يهودية على بعد أمتار أو أشبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعت له الشاة المسمومة وأكثرت السم في موضع يحبه النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذراع, وعجزت أن تنال منه أذى، فكيف يقدر أن يؤذيه من بعدت ديارهم لا قربها الله، وفسدت أخلاقهم لا أصلحها الله، فلا يمكن أن يضروه شيئاً! هذا يجعلك مطمئناً أن النبي محفوظ بحفظ الله له: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:٩٥].
ثم تنطلق بخطوات عملية في نصرته صلوات الله وسلامه عليه.