أما ما في ذلك من العظات: فإن الجامع في مقتل هذين الصحابيين هو ذلك التفكير الضال الهالك، الذي يعتقد القائمون عليه أنه الصواب وأنه المخرج للأمة، فإن قتلة عثمان كانوا يزعمون أنهم يريدون بذلك صلاح المسلمين، فمكنوه من الصلاة بالناس ثلاثين يوماً بعد أن حاصروه، ثم منعوه من الصلاة وقدموا أحدهم ليصلي بالناس زاعمين أن عثمان المشهود له بالجنة لا يصلح إماماً، ثم أضرموا عليه الدار من الخلف نيراناً كما بينا، ثم قتلوه وهو شيخ كبير قد جاوز الثمانين وكان صائماً يوم ذاك، وكان بين يديه القرآن يتلوه، لكن غلب عليهم المتشابه في عقولهم، وردوا النصوص المحكمة الظاهرة البينة في حرمة الخروج على ولاة الأمر وشق عصا الطاعة، وعلى حرمة عثمان نفسه رضي الله عنه وأرضاه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه:(عثمان في الجنة) رضي الله عنه وأرضاه! وكذلك الأمر مع علي رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما في المسند بسند صحيح - يخاطب ابنته فاطمة:(إني وأنتِ وهذا الراقد - ويشير إلى علي - والحسن والحسين لفي مكان واحد يوم القيامة)، وجلله النبي صلى الله عليه وسلم بكساء ومعه فاطمة والحسن والحسين وقال:(اللهم هؤلاء أهل بيتي فصلّ على محمدٍ وعلى آله).
والأخبار في خصائصه أكثر من أن تعد، وأكبر من أن تحصى، وكل ما ورد في فضل الشيخين الجليلين عثمان وعلي ضرب به الخوارج عرض الحائط؛ لأمور متشابهة نبتت في عقولهم، يقولون في سبب قتل عثمان إنه قرب القرابة، واستأثر بهم كولاة على المسلمين، وقتلوا علياً زاعمين أنه قبل التحكيم، والله جل وعلا يقول:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}[الأنعام:٥٧].
أمام هذين الأمرين المتشابهين اللذين لا يقومان على ساق ولا يثبتان عند حجة، قتلوا رجلين من أفضل العباد في هذه الأمة بعد الصديق والفاروق رضي الله عن أصحاب محمد أجمعين بلا استثناء.
عباد الله! إن أعظم ما يمكن أن يتسلح به المؤمن في أيام الشبهات العلم الشرعي البين من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والأخذ بمنهاج سلف الأمة الصالح والاعتضاد بما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من سنة ظاهرة وآيات محكمة، ومعالم بينة ذكرها صلى الله عليه وسلم حفظاً للأمة وخوفاً عليها من الافتراق، وصيانة لدمائها، وجمعاً لكلمتها، ولمّاً لشملها، وإغاضة لعدوها.
كل ذلك ما مات صلى الله عليه وسلم إلا وقد بينه أجمل البيان وأكمله، وإن من يدعو اليوم إلى شق عصا الطاعة، أو يسفك دماء المسلمين أو يرفع السيف عليهم، إنما يخالف بذلك أول الأمر هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وما بعثه الله جل وعلا به من الهدى والرحمة لهذه الأمة، يقول صلوات الله وسلامة عليه:(فاسمعوا وأطيعوا وإن كان عبداً مجدع الأطراف)، أي: مقصوص الأطراف لا يستطيع أن يقضي حاجة نفسه، فإذا كتب الله له الولاية وجب السمع والطاعة، لا إكراماً لهذا المجدع ولكن حفظاً للأمة وصيانة عليها ولمّاً لشعثها، لأن الأمر كما يقول الله:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:٤٣].