[ذكر من يغسل من الموتى ومن لا يغسل]
نأخذ خبراً آخر من أخباره صلى الله عليه وسلم، عليه الصلاة والسلام: ففي أُحد أمر ألا يغسل الشهداء، وقال: (ادفنوهم بدمائهم، ثم قال: أنا شهيد على هؤلاء)؛ لأنهم رضي الله عنهم وأرضاهم نصروه، وسنذكر فوائد عن هذا الحدث: أولاً: المنازل عند الله تختلف، يقول الله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩].
فالميت الأصل أنه يكرم جسداً وروحاً إذا كان مؤمناً، ولا يكرم لا جسداً ولا روحاً إذا كان كافراً، والجسد له رحلة، والروح لها رحلة، فأما رحلة الجسد فإن أول ما يصنع بالميت أن تغمض عيناه؛ حتى لا تتبع بصره، وهذا الجسد أمر الناس كفاية بأن يغسلوه، واستثنى الله الشهيد كما سيأتي.
من يغسل الميت؟ يغسل الميت في المقام الأول وصيه، وهو من وصى الميت أن يغسله، والميت إما أن يكون ذكراً أو يكون أنثى، فإذا كان رجلاً فلا يجوز للنساء أن يغسلوه، وإذا كان أنثى فلا يجوز للرجال أن يغسلوها، إلا حالتين تستثنى من هذا: الحالة الأولى: إذا كان الميت أحد الزوجين، فإن الرجل يجوز له أن يغسل امرأته، والزوجة يجوز لها أن تغسل زوجها.
وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أوصى أن تغسله أسماء بنت عميس زوجته، وأسماء بنت عميس امرأة صالحة صوامة قوامة، وقد وصى الصديق رضي الله عنه أن تغسله، وأبو بكر رضي الله عنه في سبب موته روايتان لا تعارض بينهما، فرواية تقول: إنه اغتسل في يوم بارد فأصابته الحمى، فمكث خمسة عشر يوماً ثم مات، وكان ذلك يوم الإثنين ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جماد الأولى.
والرواية الثانية: أنه قبل عام من موته أكل طعام برفقه الحارث بن كلدة، الحارث بن كلدة هذا هو طبيب العرب، فقال الحارث لـ أبي بكر بعد أن أكلا الطعام: لقد أكلنا أنا وأنت سم سنة كاملة، فمات الحارث وأبو بكر في يوم واحد على الحول تماماً من اليوم الذي أكلا فيها الطعام، وغسلته أسماء بنت عميس.
موضع الشاهد: أن أسماء وصى أبو بكر أن تغسله فغسلته.
وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين، ومحمد بن سيرين معبر رؤى، وهو أحد التابعين الكبار، فقد جاءه رجل قبل أن يغسل أنس بمدة طويلة فقال له: أيها الإمام! إنني رأيت رؤيا، قال: اقصص علي رؤياك، قال: رأيت فيما يرى النائم أن رجلاً -ولم يسمه- رأى أن ساقه مكشوفة، ونبت شعر على تلك الساق، فما تأويلها؟ فقال محمد بن سيرين على البداهة: هذا رجل يركبه دين، ثم يسجن بسبب الدين، ثم يموت وهو مسجون، قال: انتهيت؟ قال: نعم، قال السائل: رأيتها فيك، أي: في محمد بن سيرين، فركب محمد بن سيرين دين وسجن، وفي الفترة التي كان فيها مسجوناً مات أنس رضي الله عنه وأرضاه وأوصى أن يغسله محمد بن سيرين، فأخرج من السجن وغسل أنساً، ثم عاد إلى السجن ومات وهو في السجن كما وقعت الرؤيا، فصدق الله ذلك الرائي ما رأى.
موضع الشاهد من هذا هو إنفاذ الوصية في الغسل، قلنا: رحلة الجسد، ثم بعد ذلك يكفن، ثم يوضع الجسد في قبره، والقبور مساكن الموتى، وهي أول ديار الآخرة، وتراها وهي ظاهرة شيئاً واحداً وبينها في الداخل فرق لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، يقول الله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠].
فهذه أيها المبارك رحلة الجسد، فتحل أربطة الكفن، ويقرب الميت وجهه من الجدار الأمامي للحد المتجه للقبلة، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكر الكبائر ثم قال: (واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً) أي: قبلتكم أحياء في الصلاة والدعاء، وقبلتكم أمواتاً في الاحتضار والدفن، فيقرب الميت من جدار القبر الأمامي، ويوضع تراب خلف ظهره؛ حتى لا يسقط.
وبعد أن تحل عنه أربطة الكفن توضع لبن؛ حتى لا يأتي التراب عليه مباشرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام وضع على لحده تسع لبنات، ثم بعد ذلك يحثى التراب.
فهذه رحلة الجسد علمياً.