[الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
الأمر الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة:٧١]، وقال جل وعلا {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:١٠٤].
والفساد في الأرض أعظم ما نهى الله جل وعلا عنه، قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:٥٦]، ولما أثنى الله جل وعلا على رجال قد خلو وأمم قد سبقت قال: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:١١٦]، و (لولا) هنا في مقام الحض والحث، والذي يعنينا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظمى, حملها النبي صلى الله عليه وسلم وحملها أصحابه من بعده وفي حياته صلوات الله وسلامه عليه.
وتوحيد الله جل وعلا وإفراده تبارك وتعالى بالعبادة أعظم المعروف، والشرك بالرب تبارك وتعالى أعظم المنكر, ففي الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، وأعظم المعروف توحيد الرب تبارك وتعالى، ولهذا بدأ الرسل جميعاً بلا استثناء دعوتهم لأممهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده وإفراد العبادة له جل وعلا دون سواه, مع التحذير والنهي عن الشرك، وقال الله حكاية عن العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣].
ثم إن من أعظم المعروف الذي أمر به جل وعلا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء بقية الأركان، أما المنكرات فإن من أعظمها بعد الشرك اثنان: القتل، والزنا.
فهذه الثلاثة -الشرك بالله- والقتل والزنا -حرمها الله في جميع الشرائع- قال الله جل وعلا في سورة الفرقان: وهي مكية: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:٦٨].
فهذه الآيات نزلت في العهد المكي, قبل أن تفصل الشرائع كما وقع في المجتمع المدني.
فأما القتل فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من قتل مسلم) ذلك أن الكعبة إذا هدمت فإنما هي بنيان، فيأتي الصالحون فيعيدون بناءها, أما المسلم إذا قتل وأزهقت روحه فلا سبيل أبداً إلى عودة روحه, ومن هنا كان قتل المسلم معظماً جداً عند ربنا تبارك وتعالى، إلا بالحق كما قيد ربنا جل وعلا، والله جل وعلا ذكر في القرآن خبر قابيل وهابيل , وأن قابيل تجرأ على هابيل فقتله, فلما حار في أخيه كيف يصنع به، وأراد الله أن يعلمه عامله الله جل وعلا بمثل صنيعه, فكل شيء مما فيه روح قابل لأن يبعثه الله ليعلم قابيل , ولكن الله اختار الغراب وهو من أعظم الفواسق, حتى يقول لـ قابيل: هذا من جنسك أنت، قال الله جل وعلا: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة:٣١]، فاعترف بأن الغراب أفضل منه, والسبب في ذلك أنه تجرأ على دم حرام لم يبحه الله جل وعلا.
والمسلم الذي يعلم ما هو المعروف وما هو المنكر, لا يتجرأ على الدماء بيده، ولا يتجرأ على الدماء بلسانه فيريق دماً مسلماً معصوماً بفتوى أو بغيرها يريد بذلك عرضاً من الدنيا, وإنما دماء المسلمين حرام، فقبل أن يتكلم المرء فيها يجب عليه أن يتقي الله جل وعلا تقوى عظيمة.
ويروى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في أيامه ظهرت في مكان كان يسكنه شوكة الخوارج الذين يرون كفر مرتكب الكبيرة الذي يموت دون توبة, فجاءه ذات يوم رجلان منهم وهو في المسجد فرفعا سيفين عليه, وقالا: جنازتان في الباب -أي: بباب المسجد-: الأولى لرجل شرب الخمر فغص بها فمات, والأخرى امرأة حبلى من الزنا ماتت قبل أن تتوب، فما تقول فيهما؟ وكان يريد أن يقول: إنهما كافران، فاحتال عليهما فقال: هل هما يهوديان؟ فقالا: لا.
فقال: هل هما من النصارى؟ فقالا: لا.
فقال: هل هما من المجوس؟ فقالا: لا.
فقال: ممن هما؟ فقالا من غير أن يشعرا: هما مسلمان.
فقال: أنتما حكمتما بأنهما مسلمان, وأنا لم أقل شيئاً.
فقالا: دعنا من ألاعيبك, قل لنا: هما في الجنة أم في النار؟ فقال -رحمه الله تعالى-: أقول فيهما ما قاله خير مني فيمن هو شر منهما, أقول فيهما ما قاله عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:١١٨]، وأقول فيهما ما قال خليل الله إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:٣٦].
كل ذلك ورعاً أن يحصل سفك للدماء بسبب كلمة أو فتوى يقولها.
والمقصود من هذا أن الله جل وعلا حرم الدماء بطرائق شرعية معروفة, فلا يجوز لمؤمن أن يسفك دم مسلم، وفي الحديث (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).
والمنكر الثالث بعد الشرك والقتل الزنا عياذاً بالله، قال الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:٣٢] وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه رأى رجالاً ونساءاً في تنور ضيق من أدناه واسع من أعلاه يتضاغون فيه, قال: (قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني) عياذاً بالله.
وينبغي على المجتمع المسلم أن يتعاضد أفراده وآحاده على إيقاف الرذائل مهما كانت, وعلى نشر الفضائل وحراستها, وعلى إشاعة فضيلة الحياء في الناس, حتى يبتعد الناس بقدر الإمكان عن ذلك المنكر الذي حرمه الله, وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم, بل قد قال العلماء: جاءت الشرائع كلها بتحريمه، وعلى أن العاقل -إذا أراد أن يأمر بمعروف أو ينكر منكراً- أن يكون حكيماً عاقلاً لبيباً عالماً, لئلا يؤدي إنكاره إلى مفسدة أكبر منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ليس الطبيب الحاذق من يهدم مصراً -أي: مباني عديدة, ودياراً كاملة- ليبني قصراً.
أي: ليبني قصراً واحداً, وإنما ينظر من تصدر للقرار وللكلام وللحديث وللفتوى وللتدريس ينظر إلى المجتمع, وقد يمكن السكوت على منكر خوفاً مما هو أعظم منه في بيئة, ولا يمكن السكوت عنه في بيئة أخرى.
وهذه أمور يدركها كل من تأمل الشريعة حق التأمل, ونشأ مؤصلاً نفسه علمياً على سنن صالح الأسلاف رحمة الله تعالى عليهم.