للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قدرة الله تعالى على خلق النقيضين والجمع بينهما]

ونحن نسلم بأن قدرة الله أعظم من هذا كله، بل إن الله قادر على أن يخلق النقيضين، بل إنه جل وعلا يجمع بين النقيضين في وقت واحد، فقد قال الله عن أصحاب الكهف: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:١٩] فلو كانوا هؤلاء الفتية رأوا على أنفسهم تغيراً في الخلقة -بأن طالت أشعارهم، وأظفارهم، واحدودبت ظهورهم، وخطهم الشيب- لما قالوا: (لبثنا يوماً أو بعض يوم) لكن الله جل وعلا أوقف الزمان الذي يجري علينا عن أصحاب الكهف فلم تجرِ عليهم أحكام الزمان، فلم تحدودب لهم ظهور، ولم يطل لهم شعر، ولم تنم لهم أظفار، ولم يخطهم الشيب، ولم يتغير منهم شيء، فهذا وقع من غير جمع للنقيضين.

وأما النقيضان فقد جمعهما الله جل وعلا في قصة الرجل الذي قال عنه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٥٩] فأين الجمع بين النقيضين؟ إن الجمع بين النقيضين أن الله في مكان واحد أجرى الزمان على شيء ولم يجره على شيء آخر، فالحمار أجرى الله عليه أحكام الزمان فمات وأصبح عظاماً نخرة، والطعام لم يُجرِ عليه أحكام الزمان، فمكث الطعام مائة عام لم يفسد ولم يتغير منه شيء، ثم بعثه الله فشاهد بعينيه أحكام الله تجري على شيء ولا تجري على شيء آخر، وهذا كله بقدرة الرب تبارك وتعالى، والحكمة وراء ذلك كله بيان: أنه لا يقدر على هذا الصنيع إلا الله، فلا يمكن لأحد مهما بلغت قوته، وعظمت سطوته، وجل سلطانه أن يقدر على أن يصنع هذا الشيء أبداً، فهذا من خصائص الله التي جعلت ذلك العبد يقول لما رأى الآية بأم عينيه في طعام له مائة عام لم يفسد وحمار أصبح عظاماً نخرة: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٥٩] ومن علم أن الله على كل شيء قدير فإنه إذا ذكر بآيات الله يخاف، ولذلك قال الله مختتماً آية سورة الإسراء: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:٥٩].

فلنأخذ خسوف القمر مثلاً، فإن القمر يخسف فيراه أقوام فيتعجبون ويمضون، ويراه أقوام ربما كانوا يلعبون الورق، فتارة ينظرون إلى القمر وتارة يكملون ما هم فيه من اللهو، ويراه رجل مشغول بالبحوث العلمية، فيدون ذلك الخسوف يومه وليلته ونهاره وساعته ودخوله وابتداءه ونهايته، ويراه رجل لا يدري ما خسوف القمر.

ويراه مؤمن -جعلنا الله وإياكم مثله- فيتذكر فيه سطوة الجبار جل جلاله، فيخشى الله ويخافه وتتسابق خطواته إلى المسجد يفزع إلى الله جل وعلا ويتذكر قول الله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:٥٩]، وقول الله: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:٦٠].

فإذا أردت أن تعرف أين مقامك عند الله فانظر كيف حالك عند آياته، فإذا كانت آيات الله التي يجريها في الكون لا تزيدك إلا عبثاً ولهواً وطغياناً وفساداً فأنت بعيد عن الله.

وإن كانت آيات الله التي تراها في نفسك أو في الكون أو تسمع بها أو تشاهدها أو تقرأ عنها لا تزيدك إلا خوفاً وفرقاً ووجلاً من رب العزة والجلال؛ فإنك على حظ عظيم من الدنو من الله.

فالرسول الخاتم الذي جعله الله جل وعلا أمنةً لأمته كان إذا رأى تكاثر الغيم أخذ -صلى الله عليه وسلم- يغدو ويروح خوفاً من أن يكون عذاباً وسخطاً، فتتغير أسارير وجهه حتى يكشف عنه ويقول: (يا عائشة! وما يدريني أنه عذاب)، مع أن الله جل وعلا يقول له: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:٣٣]، فصلوات الله وسلامه عليه.

والغاية من هذا أن يعلم العبد أن القلوب أوعية، ولا تنشغل إلا بما ملئت به، فقلوب ملئت بحب النساء، وقلوب ملئت بحب الغناء، وقلوب ملئت بحب الغلمان، وقلوب ملئت بحب الأسفار، وقلوب ملئت بحب الريال والدولار، وقلوب ملئت بغير ذلك، وقلوب مؤمنة صادقة ملئت بحب الله جل وعلا، فكل ما تراه يذكرها بالله جل وعلا، فتحبه وتجله وترجوه وتخافه سبحانه وبحمده، قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:١٦٥].

اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقرب إلى حبك، اللهم إنا نعوذ بك من أن نعدل بحبك أحداً كائناً من كان.

والمقصود والغاية أن العبد إذا أحب الله يفقه كلام الرب جل وعلا، فإذا قال الله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:٥٩]، وإذا قال الله: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:٦٠] جعله حبه لله يلجأ إلى الله ويخافه ويخشاه ويرجوه، ويبتعد عن معاصيه، ويستغفر الله دائماً وأبداً؛ لأنه لن يخلو أحد من معاص، ولن يسلم أحد من ذنوب، وإلا لما شرع الله تبارك وتعالى أن يستغفره عباده ويخافوه