ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان العام العاشر، فأعلن للناس عزمه على الحج، فلما أعلن عزمه على الحج صلوات الله وسلامه عليه تسامع الناس بذلك فقدموا إليه حتى يأتموا به، فخرج صلى الله عليه وسلم بعد أن أحرم من ذو الحليفة مهللاً ومكبراً حتى وصل مكة وطاف بالبيت سبعاً ثم رقى الصفا وقال:(أبدأ بما بدأ الله به)، ثم أتم نسكه صلى الله عليه وسلم حتى كان اليوم الثالث عشر، فنزل بعد أن رمى الجمرات الثلاث في اليوم الثالث عشر في خيف بني كنانة صلوات الله وسلامه عليه، وصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم اضطجع، ثم لما كانت صلاة الفجر نزل إلى الحرم قبل صلاة الفجر، ثم طاف طواف الوداع، ثم صلى بالناس صلاة الفجر، ثم قفل راجعاً إلى المدينة يكبر على كل شرف من الأرض ويقول لما دنا منها:(آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)، صلوات الله وسلامه عليه، ثم اشتكى الوجع فبدأ يشعر بتغير حاله، واشتدت عليه الحمى، فلما شعر بدنو أجله خرج صلى الله عليه وسلم من البقيع فاستغفر لأهله، ثم خرج إلى أحد، فشهد للشهداء معه، ثم تصدق صلى الله عليه وسلم بدنانير كانت عنده، وأعتق غلمانه، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه مكث ينتظر أجل ربه يوماً بعد يوم، والحمى تشتد عليه، حتى كان صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول على الأظهر والأصح والله أعلم، فكانت من صبيحتها أقل من ستار بيته فرأى أصحابه يصلون صلاة الفجر مؤتمين بأبي بكر فقرت عينه، وسكنت نفسه، بعد أن رآهم مجتمعين على إمام واحد خاشعين لربهم.
فبذلك أرسل، وإلى ذلك دعا، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه عاد إلى فراشه واشتدت عليه وطأة الحمى، ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي فمه سواك، ثم استاك صلوات الله وسلامه عليه ثم لا زال يردد:(بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى ثلاثاً ثم فاضت روحه)، وانتقل إلى رحمة خالقه ومولاه، خير من أرسل، وأجل من بعث، صلوات الله وسلامه عليه، بعد أن أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
ولا ينبغي لمن يقف مع السيرة ويرصد مسيرتها أن يغفل عن شيء مهم وهو: أنه صلى الله عليه وسلم كان له من جميل الصفات والنعوت ما جعل الناس يحبونه، واجتمعوا عليه صلوات الله وسلامه عليه، وكان في كل حينه منقطعاً إلى ربه دائم الصمت، عليه من السمت والوقار ما عليه:(حتى إنه صلى الله عليه وسلم تفقدته عائشة ذات ليلة فإذا هو في المسجد منتصبة قدماه يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
أيها المؤمنون! هذه قطوف من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، من الله علينا وعليكم وأبحرنا خلالها خلال ساعة كاملة، وإننا مهما قلنا لمقصرون، ومهما تحدثنا لن نبلغ الصواب كله، ولن نبلغ الكمال كله، لكن إن كان من وصية أختم بها: فإن الله جل وعلا شرفنا بأن جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي عصرنا هذا من أسباب الفجور وأسباب البغض عن الله ما لا يخفى على أحد، والبعد عن أسباب الفجور سلامة منه.
إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على سلمى وواديها ويحتاج هذا الأمر كله إلى صبر على هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فليوطن أحدنا نفسه على الصبر، وليوطنها على اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن هذه الفتن التي تتتابع شررها، ويتفاقم خطرها، إنما هي بلاء وفتنة يصرف الله جل وعلا بها من يشاء عن طريقه، ويهدي الله جل وعلا بها من يشاء، فمن أخلص لله النية، وصلح قلبه، واستقامت سريرته، وفق للثواب، وهدي إلى سبيل الرشاد، هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم.