نقول: كلمة أوس في اللغة الأصل: أنها تطلق على الذئب، قال الراجز: ليت شعري ما فعل أويس بالغنم أي: ما فعل الذئب بالغنم، لكنها جاءت هنا معرفة بالألف واللام فتحمل عند الكثير على أنها بمعنى: العطية، والأصل أن الاسم لا تلحقه الألف واللام إذا كان علماً، لكن قد شذت بعض الكلمات عند العرب مثل هذا، مثل: الحسن؛ فإن الأصل فيه: أنه حسن إذا أردت به علماً على أحد، ويقال في حسين: الحسين، وهذا بخلاف القواعد القياسية، لكنه أمر سمع عن العرب.
أما الخزرج فمعناها في اللغة: الريح الباردة.
والأوس والخزرج أصلهما أخوان، كلاهما أبناء الحارث أحد رجال العرب اليمنيين، كان ابنان أحدهما: الأوس، والآخر: الخزرج، وأمهما امرأة من قضاعة يقال لها: قيلة بنت كاهل، ثم تفرع عن الأوس وأخيه الخزرج بيوت ودور عدة سكنت المدينة بعد هدم سد مأرب، ثم لما سكنت المدينة واستوطنت كانت المدينة آنذاك مرتعاً لليهود، أو بمعنى: أن اليهود هاجروا إليها رغبة في أن يخرج نبي آخر الزمان فيكونوا نصراءه على ما عندهم في الكتب، وقد أصابوا في أن النبي يخرج من المدينة أو يهاجر إلى المدينة، لكن لم يوفق لقبول دعوته إلا قليل منهم صلوات الله وسلامه عليه.
هاجرت القبيلتان إلى المدينة، وكان بينهما من التنازع وسفك الدماء ما لا يعلمه إلا الله، حتى إنه قبل هجرته صلى الله عليه وسلم بيسير كان (يوم بعاث) وهو: يوم اشتدت حربه بين الفريقين، وقتل فيه كثير من سراة القوم، وجرح فيه الكثيرون، فكان الناس أحوج ما يكونون إلى من يؤلف بينهم، فوافقت هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة افتراق الناس وتضجرهم من سفك الدماء والجراح والقتل وما أصابهم من النزعات، فكان صلى الله عليه وسلم رحمة بالناس عامه ورحمة بهاذين الفريقين خاصة رضوان الله تعالى عليهم، هذا كتأصيل لمعنى الأوس والخزرج، وهذا اسمهما في الجاهلية، أما الله جل وعلا فقد سماهم الأنصار في نص كتابه، وقد ورد اسم الأنصار كثيراً في الأحاديث كما سيأتي.
هؤلاء قبلوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر، والقابل لأي شيء في أول الأمر ليس كمن يقبله بعد ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعرض نفسه على قبائل العرب ويتوخى مواطن الاجتماع ويأتي أسواق العرب كسوق عكاظ وذي المجنة وغيرها، ثم كان يعرض نفسه على القبائل فعرض نفسه أول الأمر على نفر من الخزرج، هذا قبل بيعة العقبة الأولى، وقبل بيعة العقبة الثانية، فسألهم:(من أنتم؟ قالوا: نحن نفر من الخزرج، قال: من موالي يهود)، ومعنى: من موالي يهود أي: من حلفاء يهود، وقلنا: إن الأوس والخزرج كانوا يسكنون المدينة، وهم حلفاء لليهود بمعنى: نصراء، وكلمة (موالي) في اللغة كلمة واسعة: تطلق على المعتق وعلى المعتق، وعلى الحليف وعلى ابن العم، وعلى النصير وعلى الرب جل شأنه، قال الله جل وعلا:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}[الأنعام:٦٢]، وتأتي بمعنى: النصير، قال الله:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}[محمد:١١]، أي: لا نصير لهم، فقبل هؤلاء النفر من الخزرج دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر دون أن يكون هناك عقد أو بيعة بينه وبينهم، ثم لما رجعوا إلى المدينة زاد العدد فبايعوه صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ثم رجعوا ومعهم مصعب بن عمير، ثم عادوا وبايعوا مرة ثانية، فسميت: بيعة العقبة الثانية تمهيداً لهجرته صلى الله عليه وسلم إليها، فكان من كرامة الله بالأوس والخزرج أن الله جل وعلا ألقى الصدود في جميع قبائل العرب أن ترد نبيه وأعطى القبول لهذه الفئة المباركة حتى تقبل دعوة نبيه؛ ليكون ذلك سبباً في هجرته صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة، وليبقى لهم ذلك الفخر مدى الدهر رضوان الله تعالى عليهم، وقد قلنا: إن الأمور بقبولها، والله جل وعلا يلقي الفراسة في بعض عباده في قبول أمر، ويحرم بعض عباده من قبول أمر، ثم إذا جاءت العواقب أدرك المتفرس بنور الله فرحه بأن قبل الأمر لأول مرة، وقد قلنا في هذا الدرس المبارك مراراً: إنه يروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يتحنث قبل البعثة صعد جبلاً غير حراء، فقال له الجبل بلسان الحال لا بلسان المقال: إليك عني، فإني أخاف أن تقتل علي فأعذب بسببك، فيقال: إن حراء ناداه: هلم إلي يا رسول الله! فألقى الله في قلب نبيه أن يرقى حراء دون غيره من الجبال، فكانت في حراء بعثته صلى الله عليه وسلم، ونزول الوحي أول مرة، وكان لحراء فضل تاريخي على مر الدهر لم يرق إليه جبل غيره.
وكذلك النفر من الخزرج فقهوا أن هذا نبي الأمة فقبلوا الدعوة مع أن الحج آنذاك كان يجمع أشتات القبائل العربية التي عرض النبي صلى الله عليه وسلم دعوته عليها، إلا أنه لم يظفر به أحد إلا أولئك الأخيار من أهل المدينة الأولين.