[من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم]
قال الله جل وعلا في الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:٢٩ - ٣١] إلى آخر الآيات.
ثم دخل صلى الله عليه وسلم مكة، ثم عرج به ربه إلى سدرة المنتهى، وذلك أنه لما أغلقت في وجهه أبواب الطائف عنه فتح الله جل وعلا له أبواب السماء.
وكان رفيقه إلى الطائف زيد بن حارثة فجعل الله جل وعلا رفيقه إلى سدرة المنتهى جبريل، كل ذلك إكراماً من الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، فكانت رحلة المعراج: أسرى الله بك ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأواك به التفوا بسيدهم كالشهب في البدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم ثم عاد صلى الله عليه وسلم من ليلته، ثم كانت أحداث وأحداث، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة دخلها يوم الإثنين، وكان قد هاجر يوم الإثنين، وولد يوم الإثنين ونبئ يوم الإثنين كيومنا هذا.
فدخلها صلى الله عليه وسلم من جهة الجنوب من جهة قباء، ثم ركب ناقته بعد أيام متوجهاً إلى داخل البلدة وهو يقول: (دعوها فإنها مأمورة).
فإذا كانت ناقته عليه الصلاة والسلام تسير بهدي الله فكيف به كله صلوات الله وسلامه عليه؟ فدخل المدينة وبنى مسجده، وحول مسجده بنى حجرات أمهات المؤمنين التي كان يأوي إليها عليه الصلاة والسلام.
ثم كان يوم بدر، وفي يوم بدر حقق التوحيد في أعظم غاياته، ذلك أن الله جل وعلا وعده بالنصر، قال الله جل وعلا: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:٧] فكان يعلم أنه لن يهزم؛ لأن الله وعده إحدى الطائفتين، والطائفتان إما العير وإما النصر، والعير قد فرت ونجت فلم يبق إلا النصر، ومع ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام وقف يدعو ويلح على ربه في الدعاء حتى أشفق عليه صاحبه أبو بكر.
ثم كان يوم أحد، وفي يوم أحد شج رأسه وكسرت رباعيته وسال الدم على وجهه، فنظر إلى قريش وهو يقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم).
شجوه وهو يدعوهم إلى الله ليبين الله جل وعلا لكل أحد أن كل وجه وإن كان وجه محمد عرضة للتغير، عرضة للفناء، عرضة للنقص، إلا وجه الحي القيوم جل جلاله.
قال الله جل وعلا: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:٨٨].
فالشمس يراها الناس مثالاً لكل خير لكنها تخسف أو تكسف، والقمر يضرب به المثل في الجمال لكن يعتريه الكسوف، فكل كامل إلى نقصان وكل حي إلى موت، إلا وجه العلي الأعلى جل جلاله.
ثم إنه كان بعد ذلك أحداث أخر حتى كان يوم الفتح فدخل صلى الله عليه وسلم مكة مطأطأً رأسه تواضعاً لربه، ثم دخل الكعبة فكبر في نواحيها وصلى فيها ركعتين ثم خرج، ثم أعطى مفتاح الكعبة لبني شيبة قائلاً: (خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم).
ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه رأى قبل ذلك صورة أبيه إبراهيم يستقسم بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله ما لشيخنا وللأزلام) فسمى صلى الله عليه وسلم إبراهيم شيخه، وهو لم يقل لأحد من الأنبياء غيره أنه شيخه إلا لأبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه حدثت له معارك وحروب في الطائف وتبوك، حتى إذا كان العام العشر أذن في الناس أن نبي الله سيعزم على الحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يصحبه، فحج حجة الوداع، وأنزل الله جل وعلا عليه فيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣].
فعلم صلى الله عليه وسلم أنه سيموت فودع الناس، وأخذ يقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) وكان جبريل يدارسه القرآن كل عام، ودارسه القرآن في ذلك العام مرتين.
ثم عاد إلى المدينة وبقي فيها إلى أن دخل أول شهر ربيع فدخل على عائشة وهي عاصبة رأسها تقول: (وارأساه، قال: بل أنا وارأساه) ثم أخذ يشكو المرض، فخرج إلى شهداء أحد فاستغفر لهم ودعا لهم وأثنى عليهم وذكرهم بخير.
ثم أتى بقيع الغرقد ودعا لأهله وقال: (ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها).
ثم عاد إلى بيته فدبت فيه الحمى، فتصدق بدنانير تسعة كانت عنده وأعتق غلمانه، ولم يبق له من متاع الدنيا إلا سيفه عليه الصلاة والسلام وحجرات أمهات المؤمنين.
وفي اليوم الذي مات فيه -وكان يوم الإثنين- دخلت عليه أول الأمر ابنته فاطمة ولم يزل فيه شدة، فأجلسها بجواره وأخبرها أنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقاً به وأنها سيدة نساء أهل الجنة فرضيت وقرت ثم خرجت.
ثم دخل عليه أسامة بن زيد حبه وابن حبه وقد وهنه المرض، فطلب منه أن يدعو له فلم يستطع وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء أن يرفع صوته بالدعاء، لكنه رفع يديه حتى تقر عينا أسامة.
ثم خرج أسامة ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك، فنظر صلى الله عليه وسلم إليه ولم يقدر وهو في تلك الحالة أن يطلب السواك، وإنما اكتفى بتحديق النظر فيه، ففهمت عائشة مراده، فأخذت السواك من أخيها فقضمته وطيبته ثم استاك صلوات الله وسلامه عليه ليكون فوه رطباً قبل أن يلقى الله.
ثم أتاه الملك فخيره بين الخلد في الدنيا ولقاء الله ثم الجنة، وما ملئت قلوب الأنبياء بشيء أعظم من الشوق إلى الله، فسمعته عائشة يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩] بل الرفيق الأعلى.
قالها ثلاثاً، ثم مالت يده وفاضت روحه عليه الصلاة والسلام إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى.
ثم غسل، وتولى شرف غسله علي بن أبي طالب والعباس وابناه قثم والفضل يقلبان الجسد الشريف، وأسامة وشقران مولاه يسكبان الماء من غير أن تكشف لرسول الله عورة.
ثم كفن في ثلاث أثواب، ثم استعظم الصحابة أن يقدموا أحداً بهم إماماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلوا عليه أرسالاً أي: متفرقين.
أول من صلى عليه عمه العباس كبير بني هاشم، ثم بنو هاشم، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم سائر الناس.
ثم حفر له في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة، ونزل في قبره علي وقثم والفضل وأسامة وشقران، ثم وضع صلى الله عليه وسلم في لحده ونصبت عليه تسع لبنات، ثم حثي التراب على قبره عليه الصلاة والسلام، فوقعت الأمة بموته في أعظم مطيبة ابتليت بها، قال حسان رضي الله عنه وأرضاه: بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً به واراه في الترب ملحد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى فيها الرشد المسدد صلوات الله وسلامه عليه.