تأمل في نكبة البرامكة، فمن المعلوم آل برمك كانوا في دولة بني العباس، جعل الله في أيديهم نواصي الخلق، وملكهم من الأموال ما الله به عليم، وكان لهم من الحظوة والمنزلة المكان العظيم عند هارون الرشيد رحمة الله تعالى عليه، فلما عزم الرشيد على أن ينكبهم وعلى أن يبطش بهم وعلى أن يقتلهم شفعت فيهم أم الرشيد من الرضاعة، وكانت من آل برمك، فهي أرضعت جعفراً ويحيى، وفي نفس الوقت أرضعت الرشيد، أي: كانت ضئراً للرشيد؛ لأن الضئر في اللغة هي المرأة التي ترضع طفلاً آخر، فتصبح له ضئراً، أي: أماً من الرضاعة.
فلما عزم على ذلك الأمر، شفعت تلك الأم عند الرشيد فيهم، فقدمت عليه بعد أن سد دونها الأبواب، وتنصل منها وتهرب، فجاءت إلى حاجبه وكان يقال له: عبد الملك، فلما رآها عرفها، وكانت قد حسرت عن لثامها، وهي امرأة عجوز، فقالت له: يا عبد الملك! استأذن لي عند أمير المؤمنين، فدخل عبد الملك حاجب الخليفة وقد بلغه من الشفقة عليها ما بلغه، فقال بصوت حزين: ضئر أمير المؤمنين بالباب، فقال الرشيد: ويحك يا عبد الملك! أوَسَاعِية؟! -أي: أجاءتنا على قدميها؟ - قال: نعم يا أمير المؤمنين، وحافية.
يريد أن يستجر عطفه، فلما دخلت عليه قال عبد الملك: والله ما شككت لحظة في أنه سيرد جوابها أو لا يقبل شفاعتها، فلما دخلت عليه أخذت تكلمه وتذكره بماضيه وتسأله، أن يوقف ما قرره عليهم، فهي ذات المكانة عنده.
كان -رحمة الله تعالى- كلما طرقت باباً أوصده، وكلما سلكت طريقاً فر منه، وكلما رامت جواباً أجاب بأفصح منه، حتى صد عليها الأبواب، فلما رأت أنه سد عليها الأبواب أخرجت حقاً كان معها له قفل من ذهب، فقال: ما هذا يا أم الرشيد؟! فإذا بها تخرج ذؤابة شعره عندما كان صغيراً، وثنايا أسنانه عندما سقطت وهو صغير، وأخرجت مع ذلك ما كان يلبسه من رداء في أيام طفولته؛ لأنها كانت مرضعته والمشفقة عليه؛ لأن أم الرشيد ماتت وهو صغير، فقالت: يا أمير المؤمنين! هذه ثناياك، وهذه ذؤابتك، وهذا رداؤك، ثم قالت: إني أتشفع ببعض جوارك إليك.
وهي منتهى الشفاعة، فاستعبر الرشيد وبكى بكاء شديداً حتى أبكى من حوله من قواده ووزرائه، ثم قال: يا أم الرشيد! لا أجد مناصاً مما عزمت عليه، فخرجت وقد يئست منه، حتى قالوا: إنه لما بلغها مقتل أبنائها وزوجها لم تذرف لها عبرة، ولم يسمع له أنة؛ لأنها قد فعلت ما بوسعها أن تفعل.
والمقصود من الدلالة أنه ما كان الرشيد ليرد شفاعتها حتى يقضي الله أمره، ويمضي في الخلق ما أراده الله جل وعلا لهم، فالموت حتم لازم لا يُنجي منه شيء، فلا ينجي منه خوف الجبناء ولا يعجل به إقدام الشجعان، فساعتك التي أرادها الله لك أن تكون ستحين، فلا مفر ولا محالة، ولا أظن أن عاقلاً اليوم يخالف في هذا.